• Sunday, 25 August 2024
logo

كيف نهضم الجريمة؟

كيف نهضم الجريمة؟
حازم الامين



ربما علينا أن نبدأ من حيث أراد القاتل منا أن نبدأ، أي من الخاتمة التي اختارها لقصة هشام الهاشمي، الرجل الذي قُتل مساء يوم الاثنين أمام منزله في منطقة زيونة في بغداد. لقد قرر القاتل إنهاء حياة هشام في هذا اليوم وفي هذه الساعة وفي هذا المكان. هذه التفاصيل لا تعني للقاتل أكثر من كونها شروط عملية لمهمته، والمدينة، أي بغداد مفتوحة له ليفعل فيها ما يشاء. حين اقترب من سيارة هشام لم يكن قد أعد سلاحه لإطلاق النار. فعل ذلك عندما وصلت السيارة إلى محاذاته. هذا ما أظهره شريط الفيديو. لم تكن المهمة صعبة. الجريمة وقعت بمنتهى السهولة، كأننا أمام واقعة عادية تماما، تجري في أول المساء.

لكن كم يبدو قاسيا وحقيرا قرار بقتل رجلٍ بهذه السهولة بهدف إيصال رسالة إلى رجل آخر. الحاجة إلى العدالة تبدو هنا مضاعفة. قصة هشام لا تستحق هذه النهاية حتى لو كتب النهاية ألد خصومه وألد أعدائه. لكن القاتل أراد من وراء هذه النهاية أن يوصل رسالة لرجل آخر، رجل ما زال على قيد الحياة، رجل لن يقتله. هذا منتهى الجريمة ومنتهى انعدام الأخلاق، فما فعله القاتل هائل. لقد أنهى حياة رجل، وافتتح زمنا لمأساة غيابه.

قد يبدو هذا الكلام نوعا من الصراخ والندب، وهو كذلك على كل حال، لكن كيف يمكننا أن نبلع جريمة، وكيف يمكننا نهضمها إذا ما كانت شديدة القرب منا. القاتل لا يقيم وزنا لما أصابنا، لكنه هذه المرة قتل من لا يعنيه موته.

حين تصبح الجريمة بابا لمقاومة حالٍ من الاستعصاء يعيشها القاتل، يصبح القتل فعلا مسعورا ومهددا للجميع. ويبدو أننا أمام مرحلة من هذا النوع. الضحايا لا يُقتلون لأن القاتل يريد شطبهم، إنما يقتلون لكي يستعاض بجثامينهم عن الكلام وعن الإفلاس وعن الفشل وعن انسداد الأفق. وبهذا المعنى كلنا في هذا المشرق مرشحون لأن نكون رسائل. فالأفق مقفل والكارثة تتسارع خطواتها، ومن غير المهم أن يصل هشام إلى أطفاله الثلاث في المنزل الذي قتل تحت شرفته. على هذا النحو تتحول رواياتنا الصغرى إلى تفاصيل يمكن أن تطحنها الرواية الكبرى، رواية الفشل والاستبداد والجريمة المنظمة.

هذا هو المعنى الحقيقي لغياب العدالة، ولانعدامها في ثقافة القاتل. القصة الصغرى هي ميدان العدالة الأول. حين يشعر القاتل أن بإمكانه أن يقتل، فذلك ناجم عن معرفته بأن العدالة مختلة، وأن لا مكان لها في القصة الكبرى. أن تقتل يعني أنك بلا قضية وبلا قيم، وأن الحق لا يمثل شيئا بالنسبة إليك. ولا بد هنا من العودة إلى ما يعنيه غياب هشام عن أولاده، فالكلام عن قيمة الرجل كباحث وكصاحب رأي سينساه القاتل بعد أيامٍ، وربما ننساه نحن قراء هشام ومتابعيه، لكن وقع الغياب ووقع الجريمة سيلازم العائلة والأطفال طوال حياتهم، وهذا ما لا قيمة له على الإطلاق في وعي القاتل، ولم يكن اعتبارا من اعتباراته حين كان يعد للجريمة.

العدالة هنا، في حال وجدت، كان لها فعلا تعويضيا. القاتل كان مكشوف الوجه، وأقدم على فعلته تحت عدسات كاميرات الحي. مهمة جلبه لن تكون مستحيلة إذا ما توفرت قيم العدل، وتقدمت على قيم السياسة والمذهب والانقسام.

قد يكون طلب العدالة في العراق في هذه الأيام ترفا غير واقعي، لكنه الأفق الوحيد أمام الضحية. أطفال هشام لديهم الآن قصتهم وقضيتهم، والعدالة تلوح من حيث لا ندري.

بالأمس عثر المخرج السوري فراس فياض على جلاده في برلين، وواجهه في محكمة ألمانية. قال فراس إنه أحس في هذه اللحظة بأنه بدأ رحلة الشفاء، وأن العدالة ستتولى مداواة الجروح التي لم تندمل على رغم انقضاء سنوات على المأساة.

الانتقام لهشام لن يكون فعلا مجديا إذا ما تم في ظل ثقافة القاتل وفي ظل منطقه. العدالة التي ستُشفي الأطفال الذين قتل والدهم تحت شرفة المنزل الذي كانوا فيه، هي أن يوفر لهم العراق فرصة للاقتصاص ليس من القتلة فحسب، إنما من قيم القتلة ومن ثقافتهم.

لكن، ليس هذا ما نحن بصدده في العراق وفي سوريا وفي لبنان. فالجريمة هي الأفق، ووراء هشام عشيرة وطائفة وأهل، سينتظرون أن يتيح الزمن لهم فرصة لكي ينتقموا، والزمن دوار في هذه المنطقة البائسة، وابن خلدون ما زال يصلح لتفسيرنا.






باسنيوز
Top