أربيل آخر قِلاع الهويّة الكوردية
شفان ابراهيم
تغيّرت المُعطيات والاصطفافات السياسية وطبيعة تعامل النظام الغربي والأميركي مع دول الشرق ، في آخر ثلاثة عقود ، تغيّراً شبه جذري، نتيجةً طبيعيةً لتغيّر النظام الدولي، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وهيمنة الولايات المتّحدة على العالم قطباً وحيداً. كما لعب توقّف الحرب العراقية الإيرانية في أغسطس/ آب 1988 دوراً في تغيير طبيعة الشرق الأوسط من ناحية حجم قوّة النظام العراقي ونفوذه، ما ساهم في تغيير المواقف والأفكار والتوجّهات بين مختلف الدول والشرائح المجتمعية في عموم المنطقة، في العراق وخارجه. ثمّ لعب الغزو العراقي للكويت، بعد عامَين من وقف إطلاق النار بين إيران والعراق، دوراً محورياً في بدء شرارة التغيير العميقة في المنطقة، بطرد الجيش العراقي من الكويت، والبدء بإقامة منطقة آمنة للشعب الكوردي في كوردستان العراق، إنقاذاً له من الهجمات المُتكرّرة من الجيش العراقي، التي لم تتوقّف منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينيّات القرن الماضي.
مع تلك التغيّرات، شهدت أربيل صعوداً سياسياً ودولياً جعل منها قبلة للاهتمام الدولي، بسبب طبيعة التركيبة الاجتماعية والإثنية في إقليم كوردستان، وعقود الصراع السياسي، والكفاح المسلّح الكوردي ضدّ مختلف الأنظمة العراقية، وحفاظ الإقليم على التنوع العرقي والديني والقومي، وعلى الرغبة في إعادة الإعمار، وظهرت إمكانية حجز مكان بين الدول الديمقراطية في الشرق الأوسط. تُضاف إلى ذلك الاكتشافات الأثرية التي أكّدت بدايات الإنسانية في كهف شانيدار في منطقة بارزان في كوردستان العراق، ما منح كثيراً من الأوراق الضاغطة والحركية في الدفاع عن مصالح الكورد القوميّة في أماكن كثيرة، عبر لغة الحوار، وبعيداً عن العنف والسلاح.
وعبر الفترة من بدايات تسعينيّات القرن الماضي إلى عام 2003، تاريخ سقوط بغداد، شهد إقليم كوردستان العراق جملةً من التغيّرات، سواء على صعيد انتخابات البرلمان وتشكيل حكومة، أو في فترة سيئة من تاريخ الإقليم والصراعات السياسية، وتطوّرها مرحلةً أخطر، أو عبر التشبيك الدبلوماسي العميق بين أربيل والدول المعنية بالشرق الأوسط عامّة، والعراق خاصّة. وجعلَ عاملُ الأمان والاستقرار، رغم الفقر، ونقص الموارد المالية والبشرية، من العاصمة أربيل مركزاً مهمّاً للقرارات العالمية والإقليمية بعد العام 2003، بل أصبحت جزءاً مهمّاً من الاستراتيجية الأميركية الخاصّة بالعراق، حيث الآلاف من عناصر (وقيادات) قوات التحالف الدولي، والجيش الأميركي، والتمثيل الدبلوماسي، والسفارات والقنصليات الدولية والعربية، ولا مبالغة في القول إنّ أهمّية أربيل لواشنطن توازي أهمّية كامل الوجود الأميركي في كلّ من العراق وسورية، وتشكل أربيل مع دهوك حجر الزاوية لذلك الوجود، خصوصاً أنّ هاتين المحافظتَين شكّلتا، على الدوام، وخلال عمر "الربيع العربي"، سدّاً منيعاً أمام التمدّد الإيراني في كوردستان العراق، كما يُشكّل الإقليم المكان الأمثل لعمل البعثات الدولية، السياسية والعسكرية، بكلّ أريحية، من دون تهديدات أمنية، مقارنة بالعاصمة بغداد.
ولعلّ التركيبة الاجتماعية والسياسية المتقاربة للكورد في كلٍّ من أربيل ودهوك مع كورد سوريا، خاصّة بعد اختيار الغالبية العظمى من اللاجئين الكورد منها إلى الإقليم محافظتَي دهوك وأربيل، ومدينة زاخو، للاستقرار والعيش، ما جعل من إقليم كوردستان العراق البوابة الرئيسية دولياً للمنطقة الكوردية في سوريا، التي توجد فيها القوات الأميركية، إضافة إلى الدعم المعنوي واللوجستي والسياسي لمختلف الأطراف الكوردية السورية، والدعم العسكري في معارك تلّ كوجر/ اليعربية ضدّ جبهة النُصرة، وفي كوباني ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وقصف مواقع التنظيم في تلّ حميس، وغيرها من الأراضي في كوردستان، انطلاقاً من خصوصية الواقع الكوردي، والحفاظ على الوجود الهويّاتي للكورد في سوريا. يقود ذلك كلّه إلى القول إنّ طبيعة العلاقة بين الإقليم والجانب الأميركي سوف تؤثّر في تركيبة العلاقات بين أربيل وبغداد، وعلاقة أميركا بالملفّ السوري، خاصّة أنّ أربيل غالباً ما تكون عمقاً استراتيجياً للقوى الديمقراطية الراغبة في العمل في الملفَّين السوري والعراقي.
في المقابل، تعي النُخَب السياسية في الإقليم أنّ غياب الدعم الأميركي سيعني زيادةً ضخمةً في حمولة الضغوط الإقليمية والمحلّية على حكومة الإقليم، وغالباً ما سيُغري القوى الإقليمية، خاصّة تركيا وإيران، لتوسيع النفوذ والتمدّد داخل الإقليم، بهدف زيادة تجزئة كوردستان العراق، وضرب الاستقرار السياسي والاقتصادي في الإقليم، وهو ما تفعله العديد من الجهات عبر استغلال الوضع العام للإدارات الأميركية المتعاقبة، وانشغالها في قضايا مختلفة، لتحريك جهات أمنية وعسكرية مرتبطة بها، أحياناً كثيرة لا تكون غريبة عن الشارع الكوردستاني، لكسب نقاط التماس بينها وبين الإقليم، على أمل تغيير قواعد اللعبة السياسية بينهم. بشكل أدقّ، لأنّ الحزب الديمقراطي الكوردستاني في العراق هو صاحب الثقل السياسي في برلمان الإقليم، والحائز على 55 مقعداً من مجموع 239 مقعداً في البرلمان العراقي.
مع تعمّق العلاقة الطردية بين مكانة كوردستان في المدرك والتوجّهات الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والخليج العربي، وفي كلّ تعامل إيجابي من واشنطن مع هذه العلاقة والمكانة، تنجح واشنطن أكثر في تحقيق الأهداف الاستراتيجية في الشرق الأوسط، إذ تمثّل أربيل قاعدةً رئيسيةً في مواجهة التمدّد الإيراني في تلك الخاصرة، خاصّة بعد سيطرة طهران على الغالبية العظمى من العراق، بما فيها أطرافٌ من كوردستان نفسها، وتمكين العلاقة بين أربيل ومجلس التعاون الخليجي يعني تمكين الأهداف الاستراتيجية الأميركية في الخليج، والعلاقة عكسية، فكلّ قصور في التعامل، أو في كلّ سوء فهم، انعكاس سالب على ملفّات محورية عديدة، مثل قضية الغاز والقوى السياسية والعسكرية الديمقراطية. وكلّها عوامل مهمّة لواشنطن في تثبيت الاستقرار السياسي الهشّ في العراق، وفي الأدوار المستقبلية التي يمكن لها أن تلعبها بين الكورد في سوريا لاحقاً، بناءً على المدّ القومي والوجداني لأربيل ضمن كورد سوريا. ولا يمكن فصل العلاقة بين واشنطن وأربيل مع وجود الجيش الأميركي في سوريا والعراق، وأهمّية أربيل ودهوك في الدعم اللوجستي للقوات الأميركية المنتشرة في الجانب السوري.
ما يملكه إقليم كوردستان في العراق من موقع جيواستراتيجي، وعمق ثقافي، ورمزية حضارية، ومداخيل اقتصادية هائلة، وما تشكّله أربيل من رمزية قومية كوردية (بل أكثر قلاع الدفاع عن الهويّة القومية الكوردية)، ودور "البيشمركة" في تغيير النظام العراقي السابق، وتأمين الاستقرار بعده... هذه كلّها مرتكزاتٌ مادّيةٌ ومعنويةٌ وقوميةٌ ووطنيةٌ عزّزت أهمّية إقليم كوردستان الاستراتيجية، إقليمياً ودولياً، فأصبح محطّ أنظار الدول الكُبرى وتطلعاتها، وضمن المرتكزات الأساسية للمجتمع الدولي، وباتت له أدوارٌ واضحةٌ ضمن التوازنات الإقليمية والدولية، خاصّة بعد عام 2003.
أدّى ذلك إلى تزايد أهمّية الإقليم في مدركات أغلب الدول، فوجد بعضها في أربيل وسيلةً لبناء علاقات جديدة، والحصول على فرص اقتصادية وعسكرية واستراتيجية عن طريق تحقيق التفاهم مع الإقليم. في حين تجد أطراف وأحزاب أخرى في تطوّر النظام السياسي والحوكمي والاقتصادي في الإقليم، والتقدّم الدبلوماسي والعسكري للعاصمة أربيل خسارةً لها وتهديداً لمشاريعها، فبدأت بإحداث أزمات داخلية، ثمّ توظيفها، على أمل إعادة الإقليم إلى نظام المحافظات، وكسر شوكة أربيل وهيبتها في المدّ القومي والهويّاتي الكوردي، ولا تجد حرجاً أو مشكلةً في إعادة الإقليم إلى ما قبل سقوط النظام العراقي السابق. في المقابل، لطالما كانت أربيل الحامل الجمعي للهويّة القومية الكوردية، التي لم تدّخر جهداً في مدّ يد العون للكورد أينما كانوا، دبلوماسياً ولوجستياً، أو غير ذلك. والخدمات التي قدّمتها أربيل للكورد وللعرب السوريين واضحةٌ بيّنة؛ من اصطاف بجانب القواعد الاجتماعية، إلى احتضان قرابة المليون لاجئ، وصولاً إلى معبر سيمالكا الحدودي، الذي فُتِحَ لأسباب إنسانية لمساعدة الأهالي في عموم مناطق وجود الكورد في سوريا.
أمام ذلك كلّه ، وبدلاً من التقارب والعمل الكوردستاني المشترك، والبحث عن التقاطعات بين مختلف مناطق الوجود الكوردي في سوريا والعراق وإيران وتركيا مع أربيل، واغتنام الفرص لتحقيق المصالح الاستراتيجية الكوردية العليا في المستويين، الإقليمي والدولي، بما ينعكس على الوضع الكوردي الداخلي أينما وجدوا، وهي فرصة سانحة في ظلّ فشل أغلب الأنظمة في "الربيع العربي"، وانشغال الدول الإقليمية المعادية للكورد بهمومها ومشكلاتها المحلّية والخارجية... نقول، بدلاً من ذلك تستمرّ آلة التخطيط المُدبَّر للقضاء على الإقليم، وإضعافه قدر الممكن، علماً أنّ الأهمية الاستراتيجية لكوردستان يمكن توظيفها في تحقيق المصالح الكوردية المشتركة، وأهداف الكورد في أماكن وجودهم ، انطلاقاً من توظيف مقوّمات كوردستان الاستراتيجية خدمةً للمصالح الكوردية، وهي كفيلة بتحقيق مصالحَ مستقبليةٍ استراتيجيةٍ، سواء على صعيد الحقوق السياسية والدستورية، أو الاقتصادية. وفي المقابل، يتطلّب الأمر أيضاً التموضع بعيداً عن محاور (ومصالح) أطراف لم تمنح الكورد، في القرن الماضي كلّه، سوى القتل والتشريد والتدمير.
باسنيوز