• Sunday, 25 August 2024
logo

عندما يتم تحريف مبادئ العدالة الانتقالية

عندما يتم تحريف مبادئ العدالة الانتقالية
يحيى الكبيسي



يعرف المركز الدولي للعدالة الانتقالية وظيفته أنها: «استجابة للانتهاكات المنهجية أو الواسعة لنطاق حقوق الإنسان، تهدف الى تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات، وتعزيز إمكانيات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية». وتلك تتم من خلال مقاضاة عادلة لكل المتهمين بارتكاب انتهاكات ضد المواطنين، ومبادرات لتحري الحقائق لمعالجة انتهاكات الماضي، وجبر الضرر عبر تقديم التعويضات المعنوية والمادية لضحايا هذه الانتهاكات، فضلا عن إصلاح المؤسسات الأمنية، والقضاء، تمهيدا لمصالحة مجتمعية في المجتمعات المنقسمة على نفسها.
لكن تطبيقات العدالة الانتقالية في العراق بعد لحظة 2003، كانت انتقائية إلى الحد الذي جعلها سببا في تكريس الانقسام المجتمعي بدلا من معالجته، بل كانت أداة للانتقام من جهة، وأداة لشرعنة مكاسب «المنتصرين» من جهة ثانية. والأخطر من ذلك أن لا أحد في الطبقة السياسية العراقية نظر إليها بوصفها معالجات لانتهاكات حقوق الإنسان في الماضي ووسيلة لمنع حدوثها في المستقبل! لهذا وجدنا القوانين والتشريعات التي يفترض أنها جاءت في سياق هذه العدالة الانتقالية، تكرس اللاعدالة بدلا من أن تتجاوزها!
في أول ورشة حول مفاهيم العدالة الانتقالية أقامته الأمم المتحدة في العراق، في حزيران 2006، وحضرها رئيس مجلس النواب، ووزراء ونواب وناشطون مدنيون، أعلن وزير حقوق الإنسان حينها أن العراق سيعمد إلى «إطلاق كافة المعتقلين الذين تثبت براءتهم»! وبعيدا عن المغالطة المنطقية في هذه العبارة، التي تشترط على المتهم إثبات النفي، فقد عكست هذه العبارة مسار تطبيقات العدالة الانتقالية بدقة! من أنها لا تعدو أن تكون تمثلات وتأويلات الطبقة السياسية لهذا المفهوم، هكذا تحولت العقوبات الجماعية على سبيل المثال إلى واحدة من هذه التطبيقات، كما في قانون اجتثاث البعث/ المساءلة والعدالة!
ومن القوانين التي تم تشريعها في العام 2006 في سياق الفهم العراقي للعدالة الانتقالية، قانوني مؤسسة الشهداء رقم 3 لسنة 2006، ومؤسسة السجناء السياسيين رقم 4 لسنة 2006، كما تكشف التعديلات التي أدخلت على هذين القانونين سياق ما قلناه عن الانتقائية من جهة، وعن استخدام العدالة الانتقالية بوابة لشرعنة الفساد، عبر استخدام المال العام أداة في «رشوة الجمهور» لأغراض سياسية وانتخابية من جهة ثانية!
عرف قانون مؤسسة الشهداء في نسخته الاولى الشهيد بانه «كل مواطن عراقي فقد حياته بسبب معارضته للنظام البائد… بفعل من أفعال النظام بشكل مباشر، او بسبب السجن و التعذيب أو نتيجتهما»، ولكن تعديلا جرى على القانون (قانون رقم 22 لسنة 2010) أضاف لهذا التعريف ما يأتي: «أو بسبب عمليات الإبادة الجماعية وضحايا الأسلحة الكيمياوية والجرائم ضد الإنسانية والتصفيات الجسدية والتهجير القسري» لنكون امام توسيع «مسيس» أتاح لعشرات الآلاف تسجيل أنفسهم بوصفهم شهداء، عبر اللجنة الخاصة المشكلة لهذا الغرض، والمفارقة هنا أن التعريف لم يشمل المتوفين بفعل مباشر، بل شمل المتوفين نتيجة التهجير القسري أيضا! على أن المشرعين كانوا حريصين تماما على أن لا يشمل بهذا التعريف سوى «ضحايا النظام البائد» ولا يشمل من قُتل بالطريقة نفسها بعد ذلك!

ولكن تعديلا لاحقا أمام قانون جديد لمؤسسة الشهداء بالرقم 2 لسنة 2016، يقدم لنا هذه المرة تعريفا مختلفا، ومشمولين مختلفين! فقد أضاف القانون الجديد للتعريف السابق: «أو من غيب أو وجد في المقابر الجماعية أو الهارب من الخدمة العسكرية»! ثم أضيف اليه وكل مواطن عراقي «ضحى بحياته تلبية لنداء الوطن والمرجعية الدينية العليا» بما فيهم «من لم يتم تسجيلهم في هيئة الحشد الشعبي بشرط محاربتهم تنظيم داعش». ويضاف اليها «حالات الاستشهاد للفترة من 8/ 2/ 1963 ولغاية 18/ 11/ 1963، ويستثنى من ذلك من أعدم بسبب ارتكابه جرائم قتل لا علاقة لها بمعارضته لحزب البعث البائد»! من دون ان يشرح لنا لماذا تم استثناء حالات «الاستشهاد» للفترة من 18/ 11/ 1963 ولغاية 17/ 7/ 1968 للمعارضين السياسيين مثلا، ولماذا تحكم «المزاج» الشخصي للمشرعين في تحديد مفهوم العدالة الانتقالية!
هؤلاء جميعا تم منح ذويهم رواتب تقاعدية، فمن كان منهم موظفا في أحد دوائر الدولة منح راتبا تقاعديا «يعادل راتب ومخصصات أقرانه المستمرين في الوظيفة»، ومن لم يكن كذلك منح ذووهم راتبا تقاعديا «يعادل ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للراتب التقاعدي المنصوص عليه في قانون التقاعد الموحد»، وحيث ان الحد الأدنى للراتب بموجب هذا القانون هو 400 ألف دينار عراقي، فهذا يعني أن الراتب التقاعدي يعادل مليون ومائتي ألف دينار عراقي (1000 دولار تقريبا). فضلا عن مزايا أخرى مثل الوحدات السكنية وقطع الأراضي لذوي الشهداء، دون ان تقتصر المسألة على القرابة من الدرجة الأولى (يمكن للأخوة والاخوات الحصول عليها في حال وفاة الوالدين مثلا)!
وقد قامت مؤسسة الشهداء بمهمة متابعة تعويض الجرحى «جراء العمليات الحربية والأخطاء العسكرية والعمليات الإرهابية وجرحى الحشد الشعبي والبيشمركه» (قانون رقم 57 لسنة 2015)، من دون أن نعرف لماذا يعطى لمؤسسة الشهداء هذه المهمة وليس للجهات التي ينتسب اليها هؤلاء من الأصل!
ووفقا لرئيس مؤسسة الشهداء، فقد بلغ عدد الذين المشمولين باجراءات مؤسسة الشهداء 730 ألفا، بواقع 60 ألف شهيد من ضحايا النظام السابق، و230 ألف شهيد و400 ألف جريح، من ضحايا الإرهاب والعمليات العسكرية، و 10 آلاف شهيد و30 ألف من الحشد الشعبي.
أما قانون السجناء والمعتقلين السياسيين، فقد شمل بنسخته الأولى السجناء والمعتقلين السياسيين حصرا، ووفق تعريف محدد لهم بموجب القانون، ولم يحدد القانون قيمة الرواتب التقاعدية لغير الموظفين التي تصرف للمشمولين بها القانون، وإنما جعلها خاضعة لتعليمات وضوابط تصدرها السلطة التنفيذية! فيما احتسبت فترة السجن أو الاعتقال خدمة لأغراض العلاوة والترفيع والتقاعد بالنسبة للموظفين. فضلا عن مميزات أخرى حددها القانون، من بينها تخصيص أراض سكنية. ولكن تعليمات رواتب السجناء والمعتقلين رقم 4 لسنة 2010 التي أصدرها مجلس الوزراء، لم تكتف بتحديد مقدار الراتب كما قرره القانون (مليون دينار للسجين السياسي، و500 ألف دينار للمعتقل السياسي)! بل تجاوز صلاحياته، ليتحول إلى مشرع، ليقرر بانه «يجوز للسجين والمعتقل السياسي الجمع بين راتبه التقاعدي وأي راتب آخر وظيفي أو تقاعدي يتقاضاه من الدولة ولمدة 10 سنوات من تاريخ نفاذ قانون مؤسسة السجناء السياسيين رقم 4 لسنة 2006»!
وأضافت النسخة الثانية من القانون (قانون رقم 35 لسنة 2013) محتجزي رفحاء (المدنيون والعسكريون العراقيون الذين فروا إلى العربية السعودية بعد حرب 1991)، وسجناء ومعتقلي ما بين 8/ 2/ 1963 إلى 18/ 11/ 1963 ليكونوا مشمولين بهذا القانون! وقد حددت هذه النسخة من القانون الراتب التقاعدي للسجين والمعتقل والرفحاوي راتبا تقاعديا يعادل «ثلاثة أمثال الحد الأدنى للراتب التقاعدي»، أي ما قيمته مليون ومائتي ألف دينار عراقي (1000 دولار تقريبا)، أو يزيد قليلا، تبعا لسنوات السجن أو الاعتقال. والأهم انها أتاحت «الجمع بين راتبه المنصوص عليه في هذا القانون، وأي راتب وظيفي أو تقاعدي أو حصة تقاعدية يتقاضاها من الدولة» لمدة 25 سنة، ومن تاريخ نفاذ القانون رقم 4 لسنة 2006. ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، فقد قرر القانون منح «المحكومين غيابيا» عن القضايا السياسية راتبا تقاعديا يعادل 400 ألف دينار عراقي!
ليست لدينا إحصائية دقيقة لعدد المشمولين بهذا القانون، ولكن رئيس مؤسسة السجناء السياسيين أعلن مؤخرا أنهم قد تجاوزوا 100 ألف فرد!
يبدو واضحا مما تقدم أن السياق السياسي، وليس تطبيقات العدالة الانتقالية، هي ما حكم هذين القانونين، وأن من أولى واجبات حكومة السيد مصطفى الكاظمي هي إعادة النظر في هذين القانونين، عبر استبعاد السياق السياسي الذي حكم تعديلاتهما، والعودة إلى الفكرة الأصلية لجبر الضرر، التي ليس من بينها الاستثمار المالي، عبر ضوابط تضمن ذلك من دون إفراط.




باسنيوز
Top