• Saturday, 29 June 2024
logo

العراق هو المرتكز الستراتيجي للشرق الأوسط

العراق هو المرتكز الستراتيجي للشرق الأوسط
من الصعب أن نحدد الأسباب التي جعلت العراق يلقى هذا القدر الضئيل من اهتمام الولايات المتحدة وهي تراه ينزلق باتجاه الطائفية والحرب الأهلية والتقارب مع إيران. على مدى أكثر من عام كانت التوتّرات تتصاعد في العراق،
وقد حذّرت الأمم المتحدة في مطلع شهر حزيران الحالي أن 1045 عراقياً قتلوا و2397 جرحوا أو أصيبوا خلال شهر أيار الماضي جرّاء عمليات إرهابية وأحداث عنف. كان عدد المدنيين الذين قتلوا 963 شخصاً (بينهم 181 من الشرطة المدنية)، وعدد الجرحى والمصابين المدنيين هو 2191 شخصاً (بينهم 359 من الشرطة المدنية). بالإضافة إلى هؤلاء قتل 82 فرداً من قوات الأمن العراقية وجرح 206، وفقاً لما أفادت به الأمم المتحدة. ربما كان السبب وراء هذا الإهمال هو الكلل الذي نال من الولايات المتحدة نتيجة الصراعات الكثيرة التي “كسبتها” على المستوى التكتيكي ولكن يبدو أنها قد خسرتها على المستوى الستراتيجي. أو قد يكون السبب هو حقيقة كون الحرب المستعرة في سوريا أشدّ وهجاً ودويّاً وحصيلتها من المعاناة الإنسانية أعظم، كما أنها أكثر انكشافاً لعين الإعلام. على أية حال كانت النتيجة النهائية من كل ذلك أن الولايات المتحدة لم تبدأ إلا الآن بإدراك مدى الأهمية التي أصبح العراق يمثلها كمرتكز ستراتيجي. الخارطة الستراتيجية للمنطقة آخذة بالتغيّر، وللعراق في هذا التغيّر دور مهمّ وحسّاس. ففي السابق كان الفصل ممكناً بين منطقة الخليج والشرق، ومجموعة التوتّرات التي تركّز على الصراع العربي الاسرائيلي كانت تقابلها على الجانب الآخر مجموعة التوتّرات التي تركّز فقط على منطقة الخليج، إلا أن العراق واقع بين المنطقتين. لا ينكر أحد أن هذا البلد يتحوّل في بعض الأحيان إلى أزمة قائمة بذاتها، ولكنه على الدوام يبقى يقوم بدور المصد الستراتيجي بين منطقتين فرعيتين مهمّتين ضمن رقعة الشرق الأوسط. إلا أن الأمر الذي أخذ يبرز ويتجلى على مدى السنة الماضية هو أن الاضطرابات التي يشهدها العالمان الإسلامي والعربي قد غدت صراعاً من داخل نفس الحضارة لا صراعاً بين حضارات مختلفة. فالحرب بين السنة والعلويين في سوريا آخذة بالتفاعل بقوّة مع التوتّرات السنيّة الشيعية في منطقة الخليج التي تدفع بالعراق إلى الوراء حيث تنتظره فاغرة هاوية الحرب الأهلية. كذلك يتفاعل هذان الصراعان مع الصراعات السنية الشيعية المارونية وغيرها من الصراعات المذهبية في لبنان.المشكلة الكردية هي الأخرى آخذة بالانتشار الآن منتقلة من سوريا إلى العراق ثم تركيا فإيران. وهناك أيضاً مسألة الهوية العربية بمواجهة الهوية السنية أو الشيعية التي تقف حائلاً بين العراق وباقي دول الخليج وتدفعه دفعاً باتجاه إيران. وبدلاً من التفرّغ للإرهاب صارت همومنا اليوم مكافحة التمرّد وانعدام الاستقرار والصراعات الدينية والعرقية. رغم كل التركيز الحالي المنصب على سوريا فإن العراق هو البلد الأكبر والأكثر أهمية. فالعراق أمة يبلغ تعداد نفوسها 31,9 مليون، مقارنة بسوريا التي يبلغ تعداد نفوسها 22,5 مليون. بالإضافة إلى أن العراق هو صاحب الإقتصاد الأكبر، ففي العام 2011 (وهي آخر سنة أمكن الحصول فيها على بيانات واضحة) بلغ ناتجه المحلي الإجمالي 155,4 مليار دولار بينما كان الناتج المحلي الإجمالي لسوريا 107,6 مليار دولار. الأهم من هذا وذاك أن العراق دولة نفطية لها وزنها في حين أن سوريا لا يكاد يكون لها ذكر في هذا الجانب، إذ يبلغ احتياطي العراق النفطي 143 مليون برميل (أي 9 بالمئة من الاحتياطي العالمي) في حين لا يتجاوز الاحتياطي السوري 2,5 مليون برميل (أي 0,2 بالمئة من الاحتياطي العالمي). والعراق يملك 136,7 ترليون متر مكعب من الغاز بينما تملك سوريا 10,1 ترليون متر مكعب فقط. إلى جانب هذا أن للعراق تأثيرا مباشرا ومهما على مجمل أمن الخليج، وعشرون بالمئة من الصادرات العالمية من النفط والغاز السائل تمر عبر الخليج. ليس معنى هذا أن الصراع في سوريا ليس مأساوياً مفجعاً أو أنه لا أهمية له، ولكن العراق من زاوية النظر الستراتيجية يقف حائلاً بين إيران ودول الخليج العربية، وقد لعبت التوترات العراقية الإيرانية على الدوام دور المصد الستراتيجي بين إيران وباقي دول الشرق الأوسط طيلة نصف قرن يمتد من خمسينيات القرن الماضي إلى العام 2003. أما اليوم فإن العراق فيه حكومة لها علاقات قوية مع إيران وهو في ذات الوقت يمثل فراغاً عسكرياً. قادة العراق الجدد ينظرون إلى شركائهم الآخرين بعين الارتياب، وجيران العراق العرب يتعاملون مع النظام في العراق على أساس أنه تهديد أكثر من كونه حليفاً لهم، والتوتّرات المتصاعدة بين السنة والشيعة في المنطقة تجعل الأحوال في العراق أسوأ بشكل ثابت وتدفعه باتجاه إيران.إذا ما حدث وانزلق العراق نحو حرب أهلية فعلية فإن شيعته سينجرفون أكثر نحو إيران وسوريا. وإذا ما تمكّن الأسد من النجاة والبقاء في السلطة، مع استمرار دول الخليج العربية بممارسة العزلة مع العراق، فإن الوجود الرمزي للولايات المتحدة في هذا البلد لن تبقى له على الأغلب مبررات وعندئذ سيصبح العراق على الأرجح جزءاً فعلياً من المحور الشيعي الممتد من لبنان إلى إيران. أما إذا سقط الأسد واستمرت التوتّرات بين أميركا ودول الخليج بالتصاعد مع إيران فيبدو أن الأمر المرجح هو أن تسعى إيران سعيها وتفعل كل ما في طاقتها لتعويض ارتباطاتها مع سوريا بكسب نفوذ أقوى في العراق.كذلك يبدو مرجحاً أن تؤدي الضغوط العربية والتركية على العراق إلى دفعه نحو إيران بدلاً من إبعاده عنها. وإذا ما علق العراق في حرب أهلية، طائفية وعرقية، فإن هذا سيدفع بغالبيته الشيعية نحو إيران، وبالكرد نحو الإنفصال، وبالدول العربية المحيطة بالعراق نحو تصعيد دعمها للفصائل السنية في لبنان وسوريا والعراق مع تسليطها القمع على الشيعة في بلدانها. الولايات المتحدة ليست في يدها أوراق كثيرة تلعبها، فاتفاقية الإطار الستراتيجي بينها وبين العراق موجودة على الورق ولكنها لم تستطع الصمود أمام صراعات القوى السياسية العراقية التي نشبت بمجرّد خروج الأميركان. والوجود العسكري الأميركي تم خفضه إلى مكتب صغير للتعاون العسكري يقع في السفارة الأميركية في بغداد، وهذا المكتب مستمر في الإنكماش. كذلك أدى التباطؤ في تسليم الأسلحة الأميركية إلى جعل العراق يتوجه إلى روسيا وغيرها من المجهزين طلباً لحاجته من السلاح، ومساعي وزارة الخارجية الأميركية لوضع برنامج بديل لتدريب الشرطة العسكرية انهارت من قبل أن تبدأ فعلياً. والولايات المتحدة اليوم لاعب هامشي في الاقتصاد العراقي والتنمية الاقتصادية، وجهود المساعدة تموّل من أموال السنين السابقة، ولم تتقدم وزارة الخارجية بطلب لتخصيص مساعدات للعراق في السنة المالية 2014.

أنتوني كوردسمان

‌puk
Top