• Saturday, 29 June 2024
logo

الاستعصاء العراقي

الاستعصاء العراقي
لا أحد يريد حرباً طائفية في العراق، إذن، ما الذي يحول دون تفكيك الأزمة الراهنة ومعالجتها للخروج منها؟ السؤال بديهي ومشروع، ولعل الجواب بسيط: الإرادة السياسية مفقودة، تحديداً عندما يفترض أنها «الدولة» و«الحكومة». لماذا؟ لأنها لم تتعلم دروس الحرب الأهلية التي أمكن إخمادها شكلياً قبل نحو خمسة أعوام، بل لم تتعلم من تجارب دول ما سمي «الربيع العربي» حيث كانت السلطة تفقد شرعيتها، سواء كانت منتخبة أم لا، ما أن تقوم على قتل مواطنيها، ما أن تزج بقوات الأمن أو الجيش في النزاع السياسي، ما أن تنعدم الثقة بينها وبين الشعب، وما أن تمتنع عن تغليب السياسة على لغة العنف.
لا أحد يريد حرباً طائفية في العراق، لكن التمنيات والنيات الحسنة لا تكفي، ولابد من العمل لقطع الطريق على الأسوأ. كل المرجعيات المذهبية نأت بنفسها عن النفخ في نار المواجهة المسلحة. ورغم الأهمية التي اكتسبتها هذه المرجعيات بحكم ما يوصف بأنه صعود للتيار الديني إلا أنها لم تبدُ مؤثرة في مجرى الأحداث، ما يعني أن الصراع لا يدور فيما بينها. وإذ تقدمت بأفكار ومبادرات من قبيل تسهيل المعالجة السلمية للأزمة، فإن التصعيد استمر، لأن اللاعبين الحقيقيين وجدوا مصلحة في الذهاب بالتأزيم إلى أقصاه. لكن هذه أزمة لا يفيد فيها دفع الأمور نحو غالب ومغلوب، حتى لو كانت الغلبة ممكنة ومتاحة لأحد الطرفين، فالتعايش بين الفئات -أو المكوِّنات- يكون بالتوافق وليس بالإخضاع.
لا، لم يتوصل النظام العراقي «الجديد» بعد إلى إقناع مواطنيه بأنه للجميع، أو على مسافة واحدة من الجميع، بمعزل عن انتماءاتهم. المؤكد أنه أخفق في ذلك، وأنه تلقى نصائح وتحذيرات من الداخل والخارج نبهت إلى هذا الفشل، لكنه أصرّ على إدارة الحكم بمخزون الضغائن الذي راكمه لزمن طويل ولم يفطن إلى أنه مؤتمن على إطلاق تاريخ جديد لبلد عظيم مثل العراق، بل مؤتمن على وحدة الشعب والأرض وعلى لمِّ الشمل ضد كل ما حال ويحول دون استتباب الأمن للشروع في ما هو أهم: إعادة الإعمار وتأمين الخدمات وتفعيل الاقتصاد وتطوير المؤسسات، أي الانتقال من طور السلطة -وكأنها سلطة الأمر الواقع- إلى طور الدولة.
يبدو نظام نوري المالكي كأنه استرشد فقط بتجربة نظام بشار الأسد، ويسعى بإصرار إلى استنساخها. فالرئيس السوري لا يزال ينظر إلى الشعب الذي ثار عليه باعتباره مجموعة إرهابية أو جماعات متمردة على السلطة، ولا سبيل للتعامل معها إلا بالقتل. يكفي لذلك أن تضمن الجهة «الحاكمة» تفوقها الناري والقدرة على الارتقاء به لتبقى متحكمة باللعبة. ثمة فوارق كبيرة يفترض أن لا تُنسي المالكي كيف جاء إلى الحكم، وأي دولة يدعي أنه يمثل. صحيح أن هناك تهديدات للأمن في العراق، وأن تنظيم «القاعدة» يضرب ويعلن عن نفسه، لكن العالم يشهد على أن الحراك الذي يواجهه المالكي هو حراك شعبي وليس إرهابياً، وهو احتجاج مشروع وليس تمرداً معزولاً، ثم إنه طرح مطالب ومآخذ ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار. أي أن المالكي لديه مشكلة داخلية، وإذا كان مسؤولاً فعلاً فما عليه سوى أن يتحمل المسؤولية، أما إذا كان حاكماً باسم فئة حزبية أو جهة خارجية فإن زجّه القوات المسلحة يحوّلها تلقائياً إلى ميليشيا فئوية.
الأسوأ من العداء الممعن في العلنية بين المعتصمين والقوات المسلحة يكمن في الجماعات شبه السرّية التي تستغل الاعتصام لسفك الدماء، مجرد سفك الدماء، وهي تعمل على الجانبين وتنتمي إليهما. هذه الجماعات كفيلة بإشعال حرب أهلية طائفية، متماثلة في التقتيل والتدمير، فإذا هوجمت حسينية يوماً من انتحاري ذي حزام ناسف لابد أن يفجّر جامع في اليوم التالي، وهكذا، حتى أن الوقائع استحقت لقب «حرب المساجد». وهل هناك أكثر تعبيراً من مصلّين صاروا يخشون الذهاب إلى مساجدهم لئلا يستهدفوا! أي حال هذه؟ وهل يظن أي حاكم أنه يستطيع أن يهزم الإرهاب من دون توافق سياسي وتلاحم وطني؟ عناصر المشكلة في العراق معروفة، وبالتأكيد يمكن معالجتها، لأن الجميع يريدون العيش في بلدهم، بكرامتهم، ومتمتعين بحقوقهم.
عاد المالكي لكي يعلق أخطاءه على شماعة فلول نظام «البعث»، فهل المعتصمون في المحافظات السنيّة يعوّلون على عودة «البعث» أو قيام صدام حسين من قبره؟ وهل في مطالبهم ما يؤيد ذلك؟ طبعاً لا، لكن الحكام يمكن أن يتأبطوا أي ذريعة ليعفوا أنفسهم من أي مسؤولية. الواقع أن المالكي يراهن على انقسامات في صفوف المعتصمين. يهمه كسر الاعتصام بأي وسيلة ولا يستبعد اللجوء إلى العنف. وعلى افتراض فك الخيام وإنهاء الاحتجاجات بفعل ضغوط السلطة، فإن ذلك لا يشكل حلاً صحيحاً للأزمة بل «انتصاراً» سيفاقم تغوّل السلطة ويسوّغ لها كل الممارسات التي قادت إلى هذه الأزمة، من احتقار للدستور وتمييز في تطبيق القوانين وتلاعب بنزاهة القضاء واستقلاليته.

عبدالوهاب بدرخان

الاتحاد الاماراتية
Top