سوريّة بين استحالتين
-دار الحياة
نصف المشكلة السوريّة أنّ النظام ليس ديموقراطيّاً، ونصفها الآخر أنّه ليس توتاليتاريّاً. وهذه ليست حالة استثنائيّة، إذ يمكن الوقوع على مثلها في بلدان كثيرة في «العالم الثالث»، بيد أنّها تتّخذ في سوريّة شكلاً نافراً وحادّاً.
لقد ورث الرئيس بشّار الأسد عن والده عدداً من المعضلات الكبرى التي ربّما كان أبرزها التناقض بين إيديولوجيا النظام وبين واقعه وممارسته. ومعلوم أنّ النُظم التوتاليتاريّة المحكَمة والمتماسكة تعمل دوماً على تضييق فجوات كهذه، أو تتحايل على ظهورها بعدّة تبريريّة افتقر النظام السوريّ إلى مثلها.
فشعارات «الوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة» التي يتشكّل منها ثالوث البعث المقدّس، غدت شعارات محضة. أمّا التوازن الاستراتيجيّ مع إسرائيل فجعله انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، بعد خروج مصر من الصراع، لغواً. وكان، ولا يزال، من السهل إحراج النظام في الموضوع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ في ظلّ الاستقرار المهيمن على هضبة الجولان وانحصار المواجهة، حتّى 2006، في جنوب لبنان.
لكنّ علامات العجز عن بناء نظام توتاليتاريّ تذهب أبعد من ذلك، وتطاول جوانب أشدّ يوميّة وإلحاحاً في حياة السوريّين. صحيحٌ أنّ حزباً واحداً يحكم دمشق، غير أنّ الحزب هذا أخلى الساحتين الفكريّة – الثقافيّة والاقتصاديّة لسواه. فإلى حدّ بعيد يمكن القول بتقليد سوريّ لـ»النموذج» المصريّ الذي قام طويلاً على مكافحة «الإخوان المسلمين» وتعويض ذلك بأسلمة الثقافة والاجتماع. وقد شهدت السنوات الأخيرة ظهور آلاف التحقيقات الصحافيّة والتلفزيونيّة عن القبيسيّات والحجاب والفتاوى، وهو ما لا يحجبه منع المعلّمات المنقّبات من ارتداء نقابهنّ في المدارس. أمّا تخلّي الدولة (الاشتراكيّة افتراضاً) عن وظائفها الاقتصاديّة، فقد بلغ إلى ذرى من النيو - ليبراليّة أسماها البعض «اقتصاد السوق الاجتماعيّ». ولئن ظهر محلّلون يرصدون الدلالات الأهليّة للتوجّهات الاقتصاديّة، بقي أنّ هذه الحال تذكّر بدولة صدّام حسين في زمن الحصار والمقاطعة، أي حين قُلع ناب السلطة العراقيّة فتولّت بعض البُنى التقليديّة من عشائر وسواها مهمّات كانت اختصاصاً لها وحكراً عليها.
وما يتبقّى في هذه الحال هو اقتصار الدولة على بُعد أمنيّ بحت، بُعدٍ يضعها في مواجهة الحرّيّات من غير أن يوفّر لها القدرة اللازمة على «إقناع» المحكوم بالتضحية بحرّياته. والحقّ أنّ العكس هو ما يحصل في حالة كهذه: ذاك أنّ الفقر والفساد يطحنان السكّان من جهة، فيما يعمل الوعي المتأسلم، من الجهة الأخرى، على تقليص القدرة على التحمّل. أمّا التذرّع بالنموذج الصينيّ وتقليده، وهو الجامع بين حكم الحزب الواحد والاقتصاد الرأسماليّ، فيبقى أقرب إلى المزاح في ظلّ النجاحات الهيوليّة التي يحقّقها الاقتصاد الصينيّ المصحوبة بقبضة تتحكّم، من دون شريك، بالثقافة والتعليم.
وقصارى القول إنّ ما يجري في سوريّة اليوم هو الوقوع في هذه الوهدة بين عجزين، عجز عن الديموقراطيّة وعجز عن التوتاليتاريّة. ولئن أدّى الوضع العربيّ المستجدّ منذ ثورة تونس إلى تظهير الاستحالة الناجمة عن العجز الأوّل، فإنّه أفضى كذلك إلى تبيان استحالة التغلّب على العجز الثاني. أمّا الباقي فتتعدّد مسارحه بين مجلس الشعب وصلوات الجمعة وشوارع المدن وصفحات الفايسبوك.
مثل صدّام في لحظة حصاره لم يتبقّ من السلطة إلاّ الوجه الأمنيّ.