رؤية مصرية لأحداث الشارع الكردستاني
-الإتحاد
أزعم أنه لايمكن أن يزايد علىّ أحد في حب كردستان وشعب كردستان ، وحرصي على نجاح التجربة الكردستانية ، وتمكن شعبها من تحقيق طموحاته ، والعبور إلى بر الأمان ، رغم كافة الأعاصير والأنواء التي تواجه السفينة الكردستانية، وتهب عليها من كل حدب وصوب، من خارج العراق وداخله،ورغم تداخل أجندات المصالح وتعقدها وتشابكها ،وجميعها في الأغلب ليست في صالح التجربة الكردستانية،ولأنني مصري ومحب بل وعاشق لكردستان ربما قدر عشقي لمصر ،ولأنني عايشت تجربة الثورة المصرية منذ بدايتها وحتى هذه اللحظة.
بل ربما شاركت في إرهاصات هذه الثورة منذ سنوات كواحد من أفراد المعارضة الوطنية المصرية ،وذلك من خلال مشاركتي في التوقيع على البيان التأسيسى لحركة (كفاية) ، وهي أول من هتف في الشارع المصري ضد الرئيس المصري السابق حسني مبارك مطالبة برحيله ورافضة توريث نجله الحكم من بعده ، ولأن الثورة المصرية العظيمة يجب أن تكون نموذجاّ يحتذى لكل من يسعى إلى تغيير أوضاع بلاده ، فإنني أتمنى أن يسأل المتظاهرون في كردستان أنفسهم هذا السؤال : لماذا حققت الثورة المصرية هذا النجاح المذهل الفريد ؟، والذي أشاد به العالم ،حتى أنها أصبحت ضمن المقررات الدراسية في الجامعة الأمريكية في القاهرة، بل أن وزير التعليم البريطاني قرر تدريس وقائع هذه الثورة على طلاب المدارس، بل أن الشعب المصري مرشح الآن لنيل جائزة نوبل للسلام ، لماذا كل هذا؟ وماالذى تختلف فيه تلك الثورة عن الثورة البرتقالية في رومانيا ضد شاوشيسكو على سبيل المثال ؟ أتمنى أن يسأل المتظاهرون في كردستان أنفسهم عن ذلك، وأنا أيضا سأسأل نفس السؤال ، وأحاول الإجابة قدر الإمكان من خلال وقائع تلك الثورة ، وتلك الأسئلة وأجوبتها أأمل أن تعين الإخوة الأعزاء في مدن كردستان على تلمس الطريق الصحيح بعيداّ عن الأهواء ، وأجندات أصحاب المصالح .
كانت بداية الثورة يوم 25 يناير كانون أول ، ولماذا هذا اليوم بالذات ؟ ، لأنه يوم الإحتفال بالعيد السنوي للشرطة ، وخرج المتظاهرون إلى الشارع بعد دعوات واسعة على الشبكة العنكبوتية(الإنترنت) ، بدأت فعالياتهم بتوزيع الزهور على رجال الشرطة ، مهنئينهم بعيدهم ، ثم بدأت تظاهراتهم السلمية المطالبة بالإصلاح السياسي ، وبين هتافاتهم تلك كانوا يهتفون ( سلمية ، سلمية)، ومر اليوم في سلام وأمان تامين ، وأمضى بعض المتظاهرون ليلتهم في برد هذا الشهر في ميدان التحرير، وعند الفجر أنقضت عليهم الشرطة بخراطيم المياه وبالغاز المسيل للدموع وبالهراوات وفضت اعتصامهم بالقوة ، ورغم ذلك فقد ظل هؤلاء الشباب على نهجهم وهتافهم ( سلمية ، سلمية) ، وتجمعوا من جديد وهم يهتفون بمطالبهم للإصلاح ويؤكدون على (سلمية سلمية) ، ولكن رجال وقادة الشرطة لايعرفون ألاّ لغة الهراوات والعصى المكهربة والغازات المسيلة للدموع بل والرصاص المطاطي بل ماهو اكثر ، إنه الرصاص الحي ، وسقط شهداء وهم يهتفون ( سلمية ، سلمية)، وهنا تطورت المطالب من إصلاح سياسي إلى مطلب جديد هو اسقاط النظام ، وكان الهتاف الشهير( الشعب يريد اسقاط النظام) ، وكانت الأحداث الدامية ليوم الجمعة ، عندما كانت موقعة الجمل والبغل والجحش والحصان ،لقد انقض رجال يمتطون جمالاّ وحميراّ وبغالاّ جموع المتظاهرين في ميدان التحرير لتفريقهم بوحشية وهمجية ، وكان مشهداّ في غاية البلاغة ، التخلف يهاجم الحضارة والحداثة، الجمل والبغل والجحش يحاربون الإنترنت والفيس بوك، وكان هذا المشهد وحده يلخص ببلا طبيعة الصراع الدائر على أرض مصر، بين من يسعون إلى وضع مصر في المكان الذي تستحقه بين الدول ، وبين هؤلاء الذين وجدوا أن مصالحهم ترتبط بعودة مصر إلى القرون الوسطى بل وإلى عصر الجاهلية ، ولأن الثورة المصرية كانت سلمية قولاّ وفعلاّ ، فقد تحولت بعد نزول الجيش المصري وانسحاب الشرطة ، وانتهاء التصادمات إلى مايشبه هايد بارك كبير، في جانب تجد حلقة للشعراء وفي جانب آخر مسرح صغير تقدم فيه بعض المسرحيات القصيرة مع عزف لفرق موسيقية لشباب من الهواة ، وفي ركن ثالث معرضاّ للفن التشكيلي ، ونصل إلى النقطة الأهم وهي أن ثوار ميدان التحرير تنبهوا إلى أن هناك من يسعى للقفز على الثورة وسرقتها ونسبتها لنفسه ، عندما تبين نجاحها، رفض هؤلاء الشباب محاولات قيادات الأحزاب المصرية الساعية للقفز على إنجازاتهم وتضحياتهم، وأثبت الشباب بذلك أنهم على درجة عالية من الوعي،ولذلك نجحت الثورة المصرية نجاحاّ مبهراّ أذهل الجميع داخلياّ وخارجياّ، ترى هلى فهمت الرسالة ؟ ، ولنحاول أن نتخيل لو كانت الثورة المصرية استبدلت السلم بالعنف ، ترى هلى كان من الممكن أن يكتب لها النجاح؟ لا أظن ذلك على الإطلاق ، لأنها إن تبنت العنف سبيلاّ لتحقيق مطالبها لكانت قد أعطت مبرراّ للنظام بأن يقابل العنف بعنف أشد ، وكانت الغلبة حينئذ ستكون حتماّ لقوات النظام لأنه لايوجد تناسب بين ماتمتلكه الحكومة من وسائل الفتك وما يمتلكه المتظاهرون ، فضلا عن الحجم الهائل من الدماء التي حتماّ ستسقط نتيجة لهذا الصدام ، نعم لقد استخدم النظام وسائل القمع التي يمتلكها ، وقوبلت تلك بمحاولات للدفاع عن النفس لكن ظل شعار ( سلمية ، سلمية ) مرفوعاّ ، ولذلك نجحت الثورة ، لأن النظام لايمكن أن يستمر في القمع إلى مالا نهاية ، وهذا ماحدث في الثورة المصرية.
وأنتقل الى ماحدث في الشارع الكردستاني ، ليس هناك من شك من وجود أعداد كبيرة لها مشكلات مع نظام الحكم في كردستان، من ضيق معيشة ، أو بطالة ، أو فشل في الحصول على مسكن أو قطعة أرض ، أو ربما هناك من له ملاحظات على أداء الحكومة ، أو اتهام بالفساد أو التربح الغير مشروع في بعض حلقات الحكومة ، أوغير ذلك من الأمور ، هذا وارد تماماّ ،لكنني أقول جازماّ ، أن تلك الأمور لايمكن مهما كانت أن ترقى إلى ماكان يحدث ومازال في مصر ، فلا أعتقد أن هناك من يسكن في المقابر في أي مكان في العالم وفي كردستان وأعدادهم ربما تصل للملايين ، في الوقت الذي تقام فيه المنتجعات السياحية التي لانظير لها في العالم على ساحل البحرين الأبيض والأحمر ، وفي عمق الصحراء ، وهناك من يمتلك قصورا بالعشرات في تلك المنتجعات، هناك في مصر من كان يموت من الجوع ومن كان يموت من التخمة ، إن مظاهر الظلم السياسي في مصر كثيرة ، فما كان يحدث في مايسمى بالانتخابات في مصر ليس له مثيل في مكان آخر ، ففي الوقت الذي كانت تجرى فيه الانتخابات في كردستان في ظل رقابة دولية ، رفضت السلطات المصرية وبشكل قاطع السماح بالرقابة الأجنبية ، ورأى العالم بأسره ماكان يحدث في الإنتخابات المصرية ، وأعتقد أنه لو قارن منصف بينها وبين ماكان يجري في انتخابات كردستان ، لما وجد على الإطلاق أي وجه للمقارنة ، ورغم ذلك كانت المظاهرات التي خرجت مطالبة بالتغيير تهتف ( سلمية ، سلمية) ، إن من حق أي مواطن في أي مكان في العالم أن يتظاهر ولأي سبب حتى لو كان من أجل البيئة والحفاظ عليها أو احتجاجاّ على قسوة مورست ضد الحيوانات من القطط والكلاب في مكان ما ،ولكن لابد أن يتم ذلك بشكل سلمي ،وألا يسمح للآخرين بركوب موجة التظاهر تنفيذاّ لأجندات خاصة بهم ، والسؤال هو هل الذي جرى في بعض مدن كردستان كان كذلك ؟ وهل ظروف كردستان وماحولها من تعقيدات تصب فيها تسمح بحمل سلاح في تلك التظاهرات؟ ، واستخدام هذا السلاح ، هل كانت مظاهرات سلمية أم أن العنف قد غلب عليها؟
أعلم من خلال متابعتي أن المتظاهرين حملوا الأسلحة وهاجموا مقر البارتي في السليمانية واحتلوا الطابق الأول من المبنى ، وهرب مسؤول الفرع إلى الطابق الثاني بعيدا عن الموت ، فهل كان من المتوقع ألا يقابل ذلك بعنف مضاد بإطلاق الرصاص وبالتالي سقوط قتلى؟ ، وهذا ماحدث و كان خطئاّ كبيراّ وقع فيه المتظاهرين ، الحادث تناقلته باهتمام وسائل الإعلام دون تعاطف كذلك التعاطف الذي حظيت به الثورة المصرية ، وفي ظل ضجيج الرصاصات اهتم العالم بأعداد القتلى ولم يهتم بما يريده المتظاهرين ، وبالتالي سالت دماء كثيرة عبثاّ ، دون أن تحقق أى نتيجة ، أعلم يقينا أن للمتظاهرين مطالب ، بعضها مقبول وبعضها غير مقبول ،وتلك طبيعة الأمور فلا أحد يمتلك الحقيقة وحده ، وأعلم أيضاّ أنه وسط مدينة السليمانية على سبيل المثال يوجد مكان لإبداء الرأي (هايد بارك ) وهو غير موجود على الإطلاق في أي مكان في المنطقة، اللهم إلا في ميدان التحرير بالقاهرة و مؤخراّ ، وتابعت مطالب المتظاهرين ، يريدون إسقاط كل شيء ، ولا مانع على الإطلاق من تحقيق مطالب الثائرين ولكن بالأسلوب الذي يبقي لكردستان على صورتها الجميلة أمام العالم ، وملخص تلك الصورة أن هذا الشعب تمكن من فراغ تام وفقدان لأية خبرات إدارية من أن يقيم مؤسسات دستورية عليها ، وسط بحر من العداء محيط بها ، وتابع العالم هذه التجربة الفريدة ، البعض بالإعجاب ، والبعض الآخر بالغيظ ، والتمني بفشلها ، كل حسب موقعه من تلك التجربة ، والمغتاظون مما يحدث في كردستان كثر ، بعضهم داخل العراق ، وبعضهم في دول الجوار ، والبعض الآخر في المحيط العربي ،هؤلاء سعداء بالدماء التي سالت ويتمنون لها أن تتضاعف ، هؤلاء في أغلبهم يتمنون أجهاضاّ أو وأداّ لهذه التجربة والتي مازلت أراها تجربة وليدة حتى الآن ، فما يقرب من عقدين من الزمان ليس شيئاّ في حياة الشعوب ، ومسؤولية المحافظة على سلامة هذه التجربة هي مسؤولية كل الشعب الكردستاني ومن خلفهم من يحبونهم ويؤيدونهم ، ماتحقق لم يأتي ببساطة كما قد يظن البعض ، لقد كان الثمن الذي دفع في سبيل إقامة وتشييد هذه التجربة فادحاّ، وأنا أعلم يقينا أن متوسط عمر المتظاهرين يدور حول رقم الثلاثين وربما أقل ، وهؤلاء كان متوسط أعمارهم عند وقوع مأساة حلبجه الأربع سنوات على الأكثر، وربما أكثرهم لم يكن قد ولد بعد ، لذلك فهم في الأغلب لايعلمون شيئاّ عن فداحة الثمن الذي بذل في سبيل ماتحقق ، بل وهو ومما يدعو للأسف
أنهم يضجرون ممن يحدثهم عن حلبجه والانفال والمقابر الجماعية ، والبيوت المغلقة عند مغرب كل يوم خوفاّ من خطر قادم والشوارع الخالية من كل أثر لبشر ، وزوار الفجر الذين يقتادون الأبناء إلى مصير مجهول ، من يذكرهم بذلك ، يحرمهم من متعة الجلوس على المقاهي إلى وقت متأخر من الليل ، وارتياد مطاعم الوجبات السريعة ،ولكن الأمر يستوجب أن لابد أن يتذكروا فداحة الثمن الذي بذل ،حتى يدركوا أن التجربة كم هي غالية وتستحق الحفاظ عليها ،وإن تظاهروا لمطالب فعليهم أن يتظاهروا بشكل حضاري وسلمي حتى وإن قوبلت تظاهراتهم بالعنف ، من حقهم أن يطالبوابانتخابات برلمانية جديدة ولكن ليس بأسلوب فرض إرادة الأقلية على الأغلبية وبالعنف ، ولكن بالأسلوب الحضاري ، من الممكن أن تطالب الأغلبية بانتخابات جديدة وهذا حقها، والطرق السلميةلتحقيق ذلك كثيرة ومشروعة ، في كردستان كانت هناك انتخابات ،فازت فيها أحزاب تمخت عنها حكومة ، ولكن الوضع في مصر كان على العكس تماماّ ، تغوّل الجهاز التنفيذي تماماّ وكان الحزب هو حزب الحكومة وليست الحكومة هي حكومة الحزب ، لذلك كانت القرارات البرلمانية تصدر كتوجيهات من السلطة التنفيذية كأوامر إلى البرلمان وليس العكس
لذلك كانت التجربة المصرية مشوهة وثار الناس ، ولكن بشكل سلمي، من حق أبناء كردستان أن يطالبوا بالإصلاح بل وبالتغيير ، ولكن من خلال الخطوات الدستورية التي تحفظ لهم مكانتهم في العالم والتي تحققت بثمن فادح ، من حقهم المطالبة بإجراء انتخابات جديدة ، ولكن بناء على رغبة الأغلبية وليس بدكتاتورية الأقلية ، ولو تم ذلك فستتشكل حكومة جديدة وفق ماأسفرت عنه تلك الانتخابات ، تلك هي قواعد اللعبة التي يجب أن يلتزم بهاالجميع ، بقيت كلمة أخيرة ، لقد رفض ثوار مصر لأي قوة أو حزب أن يركبوا موجتهم وبالتالي حصاد ثمار مابذلوه من تضحيات ودماء ، هناك في كل مكان في العالم مايمكن أن نطلق عليهم سرّاق الثورات ، وأحذر الأخوة في كردستان من هؤلاء ، لاشك أن الكثيرين يتألمون من أمور مختلفة ، ولا شك أيضاّ أن هناك في كردستان من لديه أجندات خاصة يسعون لتنفيذها،و أرجو من هؤلاء مخلصاّ التنحي بعيدا بأجنداتهم عن المحتجين ، وأن يبتعد المحتجون عنهم ، حتى نهتف لهم (عظيمة ياكردستان ) كما هتفنا ونهتف (عظيمة يامصر).