حينما انتفضت كردستان
-الإيلاف
في ربيع 1991م وفي الأول من آذاره اندلعت انتفاضة كردستان العظيمة بعد اكثر من خمسة عشر عاما من حرب العصابات والإبادة الجماعية للسكان وسياسة الأرض المحروقة في انفالات دمرت اكثر من خمسة آلاف قرية وما يقرب من ربع مليون انسان تم تهجيرهم الى جنوب ووسط البلاد ومن ثم قتلهم ودفنهم في مقابر جماعية بصحراوات العراق الجنوبية والوسطى، انتفاضة اشتعلت في كل أرجاء البلاد ضد اعتى دكتاتورية عرفها العالم بعد نازية هتلر وفاشية موسوليني، حيث استطاعت جموع الثوار والأهالي من اختراق حاجز الخوف وتمزيقه وإسقاط نظام الاستبداد والدكتاتورية وقلاعها في معظم كردستان العراق خلال اقل من عشرين يوما، وفرض إرادة الشعب ومن ثم مؤسساته الدستورية من خلال انتخابات عامة تم إجراؤها في منتصف عام 1992م بعد انسحاب كل ما له علاقة بالنظام من كردستان، وبذلك انشأ الأهالي وفعالياتهم السياسية والاجتماعية سلطاتهم التشريعية والتنفيذية والقضائية من خلال تلك الانتخابات التي اشرفت عليها وراقبتها مجاميع من المراقبين الدوليين القادمين من الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة وأنحاء أخرى من العالم إضافة الى العشرات من منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان والعفو الدوليتين.
حقا لقد كانت الانتفاضة الاولى التي مزقت حاجز الخوف من الدكتاتور واجهزته وانطلقت لكي ترسم نظامها الجديد، فأقامت أول برلمان منتخب من الشعب مباشرة ليمثل كل مكونات المجتمع وفعالياته السياسية والثقافية، وليمنح الثقة لأول حكومة كردستانية وطنية في التاريخ المعاصر لحركة التحرر الوطني الكردي منذ إسقاط جمهورية مهاباد الكردستانية عام 1946م.
لقد تم تمزيق ذلك الحاجز النفسي المرعب وتجاوزه وتحرير النفس البشرية من قيود ذلك السوط المتكلس في اعماقها منذ مئات السنين وهذا ما حدث بعد عشرين عاما من انتفاضة كردستان والعراق في تونس ومصر وليبيا التي تستنسخ التجربة العراقية حتى في صفحاتها المأساوية، حيث يتعرض الشعب الليبي الى الابادة الجماعية كما تعرض العراقيون في الجنوب والوسط بعد ايام من انسحابه من الكويت والسماح له باستخدام الطائرات السمتية لسحق الانتفاضة الشعبانية، بينما نجح الكردستانيون في الهجرة الجماعية الى الجبال بعد ان هدد النظام باستخدام الاسلحة الكيمياوية لابادة المنتفضين مما سرع في اتخاذ مجلس الامن قراره في الملاذ الامن وحماية المدنيين.
لقد واجهت حكومة وبرلمان كردستان تحديات كبيرة من الداخل، حيث الدمار الشامل للبنية التحتية، ومن الخارج وضغوطاته بسبب الخشية من انتقال عدوى الاستقلال الذاتي لبقية أجزاء كردستان التي أصبحت واحة حرة في بلاد يحكمها الحديد والنار والحصار، تحولت خلال عدة أشهر من ملاذ آمن للكردستانيين فقط الى ملاذ آمن لكل العراقيين وفعالياتهم السياسية ووسائلهم النضالية إعلاميا وعسكريا وتنظيميا، حتى دخلت مرحلة ما بعد السقوط بمؤسسات موحدة ومتكاملة تعمل ليل نهار من اجل إحداث تغييرات مهمة في البنية التحتية للبلاد بدت واضحة جدا خلال السنوات الثماني الماضية من خلال الاطلاع على بيانات الأعمار والبناء والصحة والكهرباء والماء والتعليم الأولي والعالي والمواصلات والاستثمار الداخلي والخارجي، إضافة الى تطور ملحوظ في البنية الاجتماعية والتنمية البشرية وتحسن المستوى المعاشي للأكثرية من الأهالي وانخفاض واضح في نسب الفقر قياسا ببقية محافظات البلاد والدول المجاورة، رغم ما يواجه الإقليم من ظاهرة الفساد وانتشار المحسوبية والمنسوبية التي أخرت بشكل واضح تطور الأداء الإداري والمالي في الإقليم على ما هو عليه، وأنتجت مجاميع من الانتهازيين والطفيليين الذين ينخرون في مفاصل الدولة ومؤسساتها.
إن بروز قوى معارضة في الانتخابات الأخيرة تنافسُ الحزبين الرئيسيين وتنجح في الحصول على ما يقرب من ربع مقاعد البرلمان، وإصرار الرئيس مسعود بارزاني على الاستفتاء الشعبي لمنصب الرئيس مباشرة وبشكل حر أتاح ظهور عدة منافسين على الموقع مما يدلل على تطور الأداء الديمقراطي في الإقليم وإصرار قياداتها على إنجاح التجربة التي بدأت منذ انتخاب أول برلمان كردستاني أواسط 1992م، ومن ثم تكريس النظام الذي تم اختياره منذ الأيام الأولى لانتصار انتفاضة كردستان في ربيع 1992م ألا وهو النظام الديموقراطي الذي يعتمد صناديق الاقتراع في التداول السلمي للسلطة وقبول الآخر المختلف سياسيا او عرقيا او دينيا او اجتماعيا.
إن ما يحدث الآن باستثناء عمليات الخرق القانوني واستخدام العنف والتخريب في بعض الأحيان من مظاهرات واعتصامات إنما يعبر عن نجاح النهج الديمقراطي وإصرار البرلمان والرئاسة والحكومة على هذا النهج واحترام مشاعر الأهالي وحقوقهم في التعبير عن الرأي ضمن القوانين المرعية التي أنجزوها من خلال ممثليهم في المجلس النيابي، وهي بالتالي ليست كما يصفها البعض امتدادا او تقليدا لما حدث في تونس او مصر او غيرها لأنها تمثل إرادة شعب اختار هذا النمط من النظام في أول عملية اختيار حر له بعد تحرره منذ عقدين من الزمان دفع خلالها وقبلها بحورا من الدماء والدموع من اجل حريته واختياراته السياسية والاجتماعية، وهي بالتالي أي مثل هذه الأساليب في التعبير عن الرأي تأتي لتأكيد ان الشعب في كردستان وفعالياته السياسية الحاكمة والرئيسية منها والمعارضة انما تناضل من اجل إنجاح التجربة وانجاز مشروعها الحضاري، ولذلك نرى ان تحديات كبيرة تواجه كافة الأحزاب والفعاليات السياسية وبالذات التي تضع نفسها في خانة المعارضة ومن ابرز تلك التحديات هي الحفاظ على ما أنجزه الشعب مقارنة مع الآخرين من حولنا في كافة الميادين وأولها الامن والسلم الاجتماعيين، والانتباه الى عمليات الخرق والاختراق لتشويه هذه الممارسات ودفع الأمور باتجاه التعقيد وخلط الأوراق كما فعلت تلك القوى ابان الحرب الأهلية وهي تحاول الان اعادة عقارب الساعة الى الوراء وشحن الاجواء باتجاه تلك الحقبة المؤلمة والسوداء، ويقينا ان الشعب وقواه السياسية المخلصة لن تقبل بالتقهقر الى الوراء ولن تسمح بأي شكل من الاشكال خلق اجواء مشحونة بالكراهية والاحقاد باستغلالها واحدة من اهم حقوق الانسان في التعبير عن الرأي بشكل سلمي حضاري في نظام ديمقراطي برلماني.
ان انتفاضة كردستان 1991م ارست نظاما ديمقراطيا برلمانيا يكرس التداول السلمي للسلطة ويعتمد التعددية وقبول الاخر ويعتبر صناديق الاقتراع في أي تنافس سياسي هي اقصر الطرق واسلمها لتداول السلطات، وقد اقرت كل الاحزاب والفعاليات السياسية والاجتماعية ومكونات الاقليم العرقية والدينية الكبيرة والصغيرة هذا الشكل من النظام، وهي بالتالي تؤمن بانه النظام الانجع لتطور الاقليم وتحقيق اماني الشعب واهدافه وحل كل مشاكله سواء في الداخل او مع الحكومة الاتحادية وفي مقدمتها المناطق التي ما زالت تعاني من ازدواجية العلاقة وهي التي تقع ضمن خريطة المادة 140 من الدستور العراقي الدائم.