• Sunday, 22 December 2024
logo

لماذا فشل مشروع جمال مبارك؟

لماذا فشل مشروع جمال مبارك؟
د. وحيد عبد المجيد

-الإتحاد الإماراتي



ليس واضحاً بعد من هم الذين حرقوا المقر الرئيسي للحزب الوطني الحاكم في مصر وعدد من مقراته الفرعية في بعض المحافظات. ففي مساء جمعة الغضب (28 يناير) اختلط الحابل بالنابل فور انسحاب قوات الشرطة من مواقعها وقبيل انتشار قوات الجيش التي قامت بدور تاريخي في حماية المنشآت والناس في لحظة عصيبة شديدة التعقيد.

غير أن غضب فئات واسعة من المصريين على الحزب الحاكم سبق نشوب ثورة 25 يناير بسنوات. لم يكن أحد من الغاضبين يريد حرق مقراته. كانوا يريدون تغييراً يرفع عنهم الظلم والقهر والفقر ويعيد إليهم حقهم في حياة كريمة اعتبروا الحزب الحاكم مسؤولاً عن حرمانهم منها. ولعل بعضهم، وربما الكثير منهم، تمنوا عام 2000 أن يكون تبني هذا الحزب "فكراً جديداً" بداية لتغيير حلموا به.


فقد بدا الخطاب السياسي لمشروع "الفكر الجديد" مبَّشرا، قبل أن يصبح مشروعاً لتوريث سلطة الرئيس السابق حسني مبارك إلى نجله. بشًّر هذا المشروع في بدايته بإصلاح يحقق تغييراً تدريجياً عبر ما وعد به، سواء على صعيد تطوير الحزب الحاكم وتحديثه أو على مستوى تعزيز النمو الاقتصادي ورفده بإصلاح سياسي. لم يفصح صاحب هذا المشروع، وهو جمال مبارك، عن ملامح هذا الإصلاح بوضوح، بل تحدث كثيراً عن مسار غير محدد بدقة، لكنه يقود إلى إصلاح دستوري وسياسي.
وجاء تعديل المادة 76 في الدستور في بداية عام 2005 لانتخاب رئيس الجمهورية من بين أكثر من مرشح بدلاً من الاستفتاء على مرشح وحيد، فأطلق ثورة توقعات بشأن دور مشروع "الفكر الجديد" في تفعيل المسار الإصلاحي على نحو يتيح للناس مشاركة في إدارة الشأن العام وحياة أكثر كرامة وليست فقط أوفر حرية.

كان المصريون مستعدين لقبول إصلاح بطيء يُنفذ على خطوات عبر فترة ممتدة، لكن بشرط أن يكون حقيقياً ومطرداً وفى خطوات متوالية وليس بطريقة خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء.

غير أن التعديلات الدستورية الأوسع نطاقاً، التي شملت أكثر من 30 مادة في الدستور المصري عام 2007، أحبطت توقعات المتطلعين إلى إصلاح تدريجي.

وقد حدث ذلك بينما كان جيل جديد من شباب مصر قد دخل الساحة عبر ثورة الاتصالات التي وفرت له أدوات لم تتح لأي جيل سابق. وتزامن ذلك مع تغير صورة مشروع مبارك الابن، حيث أخذ عدد متزايد من المصريين يعتبرونه مشروعاً للتوريث.

وشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تطورات قادت إلى ثورة 25 يناير التي كان إسقاط مشروع جمال مبارك من بين نتائجها. فقد ازداد الغضب على هذا المشروع وصولاً إلى الانتخابات البرلمانية الأخيرة في نوفمبر الماضي. فالطريقة التي أجريت بها هذه الانتخابات عززت الاعتقاد بأن مشروع التوريث هو هدف "الفكر الجديد" وأصحابه. لم تجد المعارضة بأطيافها كافة مكاناً يُذكر لها في البرلمان، الذي كان وجودها في سابقه المنتخب عام 2005 بنسبة لا سابقة لها منذ عام 1987، دافعاً إلى أمل ما في مشروع "الفكر الجديد" قبل أن يختلط بالقلق من توريث السلطة.

ولا يقل أهمية أن هذا المشروع، الذي توجه في بدايته إلى الشباب، عزل نفسه في السنوات الثلاث الأخيرة عنهم. كان الشباب، الذين صنعوا ثورة 25 يناير، هم هدف مشروع "الفكر الجديد" الذي سعى عبره جمال مبارك إلى تأكيد حضوره في الساحة السياسية والاجتماعية. فقد دخل الحياة العامة من بوابة "جيل المستقبل"، نسبة إلى أعضاء جمعية المستقبل التي أسسها في أواخر التسعينيات، وضم إليها آلافاً من الشباب الذين أُطلق عليهم هذا الاسم.

كما كان الشباب هم عدته لتطوير الحزب الوطني، الذي انضم هو إلى قيادته عام 2000 وصار أمينه العام المساعد وأنشأ فيه الأمانة العامة للسياسات. فوفق مشروعه "الفكر الجديد"، الذي صار شعاراً لهذا الحزب، يعتبر الشباب رافعة أساسية للتجديد.

والأكيد أنه لم يخطر في بال مبارك الابن حينئذ، وخلال السنوات العشر التي أمضاها في قيادة الحزب الحاكم قبل أن يغادر قصر الرئاسة مع والده بلا عودة يوم الجمعة الماضي، أن مشروعه سيسقط نهائياً على أيدي شباب كان قد راهن على مثلهم ليكونوا هم أنصاره.

غير أنه إذا لم يكن سهلاً قبل أسابيع قليلة التنبؤ بنهاية مشروعه على أيدى الشباب، فقد كان بالإمكان توقع إسدال الستار على هذا المشروع نهائياً بعد أن تراجع بشدة في السنوات الثلاث الأخيرة. فقصة صعود مبارك الابن وهبوطه ليست جديدة. إنها حالة لها سابقاتها الكثيرة في صور مختلفة وأشكال متباينة.

إنها قصة السياسي صاحب النفوذ العظيم الذي يعزل نفسه وراء جدران سميكة، ويجلس مختاراً في صندوق يملك جهاز الأمن مفتاحه الوحيد، ويسلَّم نفسه طائعاً إلى أصحاب مصالح خاصة.

لقد بدا مشروع مبارك الابن في بدايته مبَّشراً بغض النظر عن قضية التوريث. وأكثر ما بشَّر به هو أنه قدم رسالة انفتاح على المجتمع وليس فقط على المعارضة في نظام سياسي كان انغلاقه قد صار محكماً. لكنه لم يلبث أن أغلق الباب على نفسه، وسلك سلوك قادة الحكومة والحزب الحاكم في الاعتماد على شلة لا يمكن إلا أن يكون لكل من أفرادها مصالح خاصة من ناحية، وعلى جهاز الأمن من ناحية ثانية.

ولم يوفر كل من الطرفين جهداً في بناء حوائط سميكة حوله وتوليد غضب شعبي متزايد ضده. وبدلاً من أن يكون دوره مساعداً في إقالة الحزب الحاكم وحكومته من عثرتهما، صار عبئاً إضافياً عليهما. لم يكمل جمال مبارك ما بدأه، فتقادم مشروعه بسرعة وصار الفكر الجديد قديماً. بدأ نجل الرئيس دوره في الحزب الحاكم بوعد لتطويره وتحديثه. ولكنه لم يلبث أن تكيف مع طابعه الشبحي وصدَّق أنه يقود حزباً حقيقياً، وامتنع عن الاستماع إلى النقد الأمين والنصح المخلص. فكان فشل مشروعه أمراً طبيعياً. ولعله تذكر في الأيام الماضية عندما تبخر الحزب الوطني ما كان قد قيل له عن "شبحية" هذا الحزب. وهذه هي سمة "الأحزاب -الأشباح" التي يهرع إليها أصحاب المصالح وغيرهم ممن يتعاملون معها باعتبارها ملحقة بالدولة أو ضمن أجهزتها.

ولا يعتبر الحزب الوطني حالة فريدة في العالم. فالأشباح الحزبية ليست ظاهرة مصرية في طابعها وطريقة إدارتها واعتقاد قادتها أنها أحزاب حقيقية. وقد صدَّق جمال مبارك أن الحزب الوطني ليس فقط حقيقياً بل قوي تهتز له الجبال. وبدا في المؤتمر السنوي الأخير لهذا الحزب في 25 ديسمبر الماضي كما لو أنه بلغ الجبال طولاً. كان لسان حاله يومها يقول إن كل شيء "تمام"، قبل شهر على نزول الشباب إلى الشارع في ثورة أسدلت الستار في أيامها الأولى على مشروعه قبل أن تسقط النظام السياسي برمته.
Top