• Sunday, 22 December 2024
logo

ليبرالية أم حرية.. ليس هذا هو الخلاف!

ليبرالية أم حرية.. ليس هذا هو الخلاف!
المصدر: الجزيرة السعودية

للكاتب: محمد المهنا أبا الخيل

كثر في هذه الأيام مدَّعو الليبرالية، وكثر أعدائها، وعندما تنظر في أدبيات المدعين والأعداء تكاد تجزم بأن كلاً منهم يتحدث عن ليبرالية مختلفة عما يتحدث عنه الآخر، فمُدَّعو الليبرالية يرونها عنوان التنوير والانعتاق من قيود المألوف وعتيق الفكر والعادات والتحرر من قيود التغيير، في حين يرى الأعداء أنها حرب للدين وتملص من الالتزام بمقتضيات الشرع في التعامل والتعايش. وعندما تبحر في فلسفات الليبرالية تجد أن هناك توجهات مختلفة وطروحات متباينة تجعل مفهوم الليبرالية أشبه ما يكون بالسلطة تسود فيها الخضرة المفضلة عند صاحبها.

أنا كنت أعتقد أن الليبرالية هي حركة تمحورت حول تحقيق الحرية المطلقة للخلاص من تبعية الاعتقاد الديني ابتداء، ولكن بعد بحث وتدقيق تبيّن لي أنها حركة فكرية برزت بوصفها مفهوماً فلسفياً يبحث عن صيغة للعدالة الاجتماعية في أوروبا القرون الوسطى، حيث كانت ترزح المجتمعات الأوروبية تحت وطأة جور النظم الإقطاعية وتآمر الكنيسة مع تلك النظم. وكان محور هذه الفلسفة هو تحقيق الحرية الخالية من الإذعان، هذا المفهوم تشعب وتفصل وبات موطن كثير من الخلافات حول ما هي الحرية؟ وهل هي مطلقة أم مقيدة، أو هي لازمة أو مكتسبة؟ وهل هي فردية أم جماعية؟.. هذا الجدل أفرز حركات تغيير مبنية على فكرة ليبرالية مركزية؛ فحركات التحرر الديني كانت تعتمد على حرية المعتقد، وحركات التحرر السياسي تعتمد على حرية التمثيل والتفويض، وحركات التحرر الاجتماعي تعتمد على حرية الاختيار؛ فبرزت العلمانية بوصفها مشروعاً لفصل الدين عن الدولة، وبرزت الجمهورية بوصفها مشروعاً للتمثيل السياسي، وبرزت الشيوعية بوصفها مشروعاً للتوازن الطبقي والعدالة الاجتماعية، وفي مقابل ذلك برزت حركات أخرى مماثلة ومنافسة. هذا المخاض الليبرالي هو ما صاغ الواقع الغربي المعاصر، الذي يقوم على الحرية بوصفها ركيزة لازمة للخيار الفردي.

في الإسلام لا حاجة لنا بجلب المفاهيم التي ترتبت على النهج الليبرالي؛ فالإسلام يضع الحرية بوصفها أصلاً لحال الإنسان المكلف بالإيمان والإسلام؛ فالخطاب القرآني الموجَّه للبشر بصورة فردية أو جماعية يقوم على حوار عقلي يعتمد الإقناع بالاستشهاد والتدليل، وهو ما يمنح الإنسان حرية الخيار بعقله بين ما ينفعه وما يضره {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوه بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}، فالحرية هي القدرة على المشيئة، ولا يمكن تكليف الإنسان بدون تلك القدرة، فلا يجوز أن تكلف الإنسان بالطيران وهو لا يملك القدرة على ذلك؛ لذا وضع الإسلام الحرية في موضع التأسيس للتكليف، وإعفاء من التكليف مَنْ تقيدت حريته بعائق لازم كقلة الفَهْم عند صغير العمر أو فقدان العقل عند الكبير، أو العائق البدني للعاجز؛ حيث يُعفى المكلف من بعض ما لا يستطيع القيام به.

إذن يجوز الجزم بأن الحرية هي أصل حال الإنسان ليتحمل مسؤولية أفعاله، وإن ما يشط به الناس من فَهْم للحرية هو استتباعات الحرية من الأفعال والأقوال، فعندما يقدم أحدهم متمثلاً الحرية على فعل مذموم تُلام الحرية على ذلك، والواجب أن يُلام الفرد ويحاسب على الفعل، والفعل هنا يشمل القول والتصريح بمكنونات الجنان من الأفكار والأهواء، ومثار الجدل بين الفرقاء هو مساحة ذلك المذموم من الأفعال والأقوال، التي تستوجب المحاسبة، فتلك في أعين فريق ترى كبيرة تستلزم التصغير، وفي أعين فريق آخر صغيرة تستلزم التوسيع، وبين هؤلاء وهؤلاء طيف واسع، وحجج الجميع فيما يريدون معظمها مستمد من فهمهم للإسلام بوصفه ديناً ودستور حياة؛ لذا نجد هذا الخلاف متبايناً في طرح الحلول لما يواجهه المجتمع من تحديات.

هذا الحرك الفكري مطلوب، والنقاش حوله مفيد في تقريب المفاهيم وإذكاء المعرفة ونشرها بين الناس، ومع ذلك يحتدم أحياناً في صورة تفقده رصانة العقل ويشط البعض فيه؛ فيتهم ويُخوِّن ويصف الآخر المختلف بأبشع الألفاظ، وهذا أمر مؤسف؛ فاللجاج صخب لا يسمعه إلا صاحبه، لا حجة فيه تقوم، ولا علم به ينتفع؛ لذا من الأجدى أن يكون تناول مواضيع الخلاف مبنياً على حُسْن الظن بإرادة الحقيقة، وألا تكون هذه النقاشات ميادين لكسب المتفرجين؛ فكثير من التعليقات التي تصاحب بعض المقالات هي أبعد ما تكون عن الموضوعية، وكأنها صراخ مشجعي المدرجات في ملاعب الكرة.
Top