في البدء كان العراق
للكاتب: وليد نويهض
نجاح الأطياف العراقية في التوصل إلى صيغة ائتلافية لتشكيل وزارة تعكس بحدود نسبية طبيعة الانقسام الأهلي يمثل خطوة سياسية طوعية تستجيب للمتغيرات القسرية التي عصفت بالبلاد بعد الغزو الأميركي في العام 2003. فالنجاح على رغم ما يجره من مضاعفات داخلية يبقى أفضل من الانهيار وانفراط عقد المنزل وسقوطه على السكان.
الاختيارات السياسية محدودة وهي في مجملها لا تستطيع تجاوز صورة الانقسام الأهلي الذي تأسس بناء على رغبة المشروع الأميركي. فالصورة هي نتاج الواقع وما تولد عنه من حروب صغيرة ساهمت في إعادة تشكيل هيكل دولة تقوم على قاعدة التفكك وتوازن الأضلاع. وهذا الواقع المنقسم لا خيارات أمامه سوى الاستمرار في الارتداد إلى الوراء أو المحافظة عليه ومحاولة التكيف مع انشطاراته الأهلية الطائفية والمذهبية والأقوامية والقبلية والمناطقية.
خيار الوحدة العراقية غير مطروح في الوضع الراهن وربما ليس في الأمد القريب. كذلك الارتداد إلى المواد الطبيعية الأولى يعتبر خطوة تقهقرية يصعب التكهن بالقعر الذي ستستقر عليه. بين الوحدة والارتداد يمكن أن تتشكل حكومة تتأقلم مع بناء هيكل تعرض للتقويض. وهذا أضعف الإيمان.
نجاح الأطياف في التفاهم على قاعدة التشرذم والانقسام في مرحلة يستعد الاحتلال الأميركي للتموضع وإعادة الانتشار، يبقى الخيار الأفضل من بين الحلول لكونه يرسل إشارة تطمين للمنطقة تعكس احتمال عودة العراق إلى نوع من الاستقرار النسبي والقلق المحكوم بسقف إقليمي - دولي بعد أن عايش فترة اضطراب فاض عن مجاله الجغرافي أو الحيوي.
عودة العراق إلى الاستقرار على قاعدة الانقسام تبقى أفضل من اللاعودة باعتبار أن بلاد الرافدين شكلت في العقد الماضي مصدر قلق إقليمي وأدت إلى إنتاج بؤر عنف انتشرت في الداخل وامتدت إلى الخارج حاملة معها ذلك الفائض من الكراهية والأحقاد والتعصب والجهل وثقافة الانتحار وتقويض الهيكل على رؤوس الجميع.
منذ سقوط بغداد وغياب صدام حسين عن المشهد لم تعرف المنطقة الهدوء. فتلك اللحظة الزمنية التي بدأت في ربيع العام 2003 كانت بداية للاضطراب في دائرة المنظومة الإقليمية ما أدى إلى تساقط رموز في فترة قصيرة. بعد صدام غاب ياسر عرفات من الصورة بسرعة لم تكن متوقعة في خريف 2004. وبعد عرفات اغتيل رفيق الحريري في شتاء 2005.
خلال أقل من سنتين تغير المشهد الإقليمي. خروج صدام عنوة من المعادلة ساهم في تقويض العراق وانهياره وتبعثره إلى فدراليات طوائف وأعاد تشكيل بلاد الرافدين في هيئة أهلية مغايرة للصورة السابقة. وغياب عرفات عن المشهد الفلسطيني ساهم في انكسار المعادلة وتعديل التوازن إذ أعقبه فوز حماس في الانتخابات النيابية وثم ارتدادها على مشروعها الأصلي وانزلاقها إلى الانقسام الأهلي واستقرارها في «غيتو» غزة بعيداً عن الفضاءات الدولية والإقليمية. وإلغاء الحريري من الصورة كان له تداعياته الكبيرة في لبنان ومحيطه حين شكل ذريعة للخروج العسكري السوري وانقسام بلاد الأرز إلى معسكرين أهليين وتورط حزب الله في المستنقع الداخلي ومنتوجاته الفطرية.
الحلقات العراقية الفلسطينية اللبنانية مترابطة حتى لو كانت متباعدة في المسرح الجغرافي. فهي تشكل مجتمعة سلسلة متراصة من الانفعالات الأهلية أدت إلى تصدع الوحدات (الضعيفة أصلاً) وتفكيكها إلى معسكرات ضيقة تتصارع عصبياً من دون إدراك للمخاطر المشتركة التي تتعرض لها من مختلف الجهات.
غياب ثلاثة رموز من المشهد الإقليمي في أقل من سنتين ليس مصادفة. كذلك كان من الصعب مروره من دون خضات دموية بسبب نشوء فراغات لابد من تعبئة ساحاتها بالقوة أو بالتضارب. وهذا ما حصل سياسياً وفي توقيت متقارب في العراق وفلسطين ولبنان.
العراق هو البدء جغرافياً وتاريخياً. ومنه أرسلت إشارة الزلزال الإقليمي ليشكل ذلك الفائض من العنف تحت مظلة تغيير خريطة المنطقة وتعديل توازنها أو على الأقل إعادة هيكلة الخريطة الأهلية من الداخل حتى تكون «إسرائيل» مستقرة وآمنة في وقت يتقاتل الأشقاء والأخوة على نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية وغيرها من عصبيات جاهلة وجاهلية.
لأن العراق هو الأساس، ومن ثغرته جاءت العواصف الدولية لتعبث بالمسرح الإقليمي فإن الهدوء القلق (الاستقرار النسبي) لابد أن يأتي منه. فإذا اتجه نحو التفاهم الداخلي (ائتلاف وزاري كما حصل بالأمس) واتخذت الأطياف الأهلية قرار الاستسلام للأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال بالقوة يصبح بالإمكان توقع استنساخ التجربة وإعادة تشكيلها محلياً في لبنان وربما فلسطينياً بين فتح وحماس.
الاحتمالات لاتزال مفتوحة على أكثر من خيار ولكن المرجح أن يستقر أمر العراق على قسمة غير عادلة لأن التوجه الآخر يعني الاندفاع باتجاه اضطراب دائم يذكر المحيط الجغرافي بتلك الكارثة التي ألحقها بالمنطقة غزو هولاكو لبغداد في القرن الثالث عشر. بين الغزو المغولي والغزو الأميركي أكثر من 700 سنة وهناك الكثير من التشابهات في تضاعيف الصورتين وتتمثل في صعود قوى وهبوط قوى وخراب مدن وازدهار حواضر وتفشي الفساد والأمية والجهل والتعصب والإرهاب إلى جانب نمو حركات فكرية تفاوتت بين التنوير والعقلانية والسلفية.
التاريخ أحياناً يتكرر بصور متخالفة أو متشابهة ولكن الجغرافيا أكثر استقراراً. والعراق يشكل في المعنى الجغرافي - التاريخي حلقة إقليمية مركزية تتصارع على أرضها قوى الجوار في أطوار معينة وتكون مصدر قلق أو أنوار في أطوار أخرى. وهذه الجاذبية الناجمة عن الموقع والدور أعطت هذه الأهمية الاستثنائية لعاصمة الرشيد في الماضي البعيد والحاضر القريب.
ما حصل في المنطقة خلال السنوات الماضية ليس بعيداً في محصلته الدولية والإقليمية عن الجاذبية العراقية. والارتدادات التي وقعت في فلسطين (رحيل عرفات) ولبنان (غياب الحريري) لا يمكن فصلها أو عزلها عن زلزال بلاد الرافدين وغزو بغداد وإخراج صدام من الصورة. فالأضلاع غير متساوية هندسياً ولكنها متقاربة منطقياً لكون ارتدادات الزلزال ساهمت في تغيير الموازين وتعديل هيئة المنطقة ومنظومة العلاقات الإقليمية.
الآن يستعد الغزاة إلى الرحيل بعد أن نجحت مهمة التقويض (زعزعة الاستقرار) فهل تبدأ المنطقة باستعادة حريتها في ضوء التعامل الواقعي مع نتائج كارثة الزلزال أم تعود للانشغال في ترتيب توابع الانهيار والانزلاق باتجاه الخيار الآخر المتمثل في الانشطار اللامتناهي للأجزاء والجزئيات؟
الجواب الشكلي - الظاهري موقوف في هذه اللحظة على مدى نجاح الأطياف العراقية في تأكيد الائتلاف على تشكيل وزارة تعكس بحدود نسبية طبيعة الانقسام الأهلي. فإذا نجحت الأطياف وتجاوزت ما تبقى من عقبات وعتبات تكون قد أرسلت إشارة سياسية طوعية تستجيب للمتغيرات القسرية ولكنها تبقى أفضل من خيار الانشطار إلى ذرات صغيرة. أما إذا فشلت فهذا يعني أن فائض العنف لن يقتصر على بلاد الرافدين ولن ينحصر في دائرة المحيط بل سيتمدد خصوصاً إلى المناطق الخصبة بالتناقضات كما هو حال فلسطين المحتلة أو حال لبنان الممزق إلى سلطات محلية جاهزة للانقضاض حين تقترب اللحظة.