المفوضية الأوروبية الجديدة تباشر مهامها وسط هواجس أمنية واقتصادية
بعد أسابيع من المفاوضات المُعقّدة بين الكتل السياسية، والعراقيل التي كادت تعيدها إلى نقطة الصفر في البرلمان الأوروبي، تبدأ اليوم المفوضية الأوروبية الجديدة نشاطها، وعينها على مسافة 6 آلاف كيلومتر من بروكسل، حيث سيعود دونالد ترمب للجلوس في البيت الأبيض لولاية ثانية ترتعد لها فرائص الأوروبيين الذين يواجهون أصعب المراحل التي مرّ بها الاتحاد منذ تأسيسه، في حال من الانقسام غير المسبوق تحت وطأة الانحسار الاقتصادي والسياسي في ألمانيا وفرنسا.
تحديات ضخمة تنتظر هذه المفوضية الأكثر جنوحاً نحو اليمين في تاريخ الاتحاد، في قارة شديدة الاستقطاب، تعاني من تراجع إنتاجيتها وقدرتها على المنافسة، ومن ضمور نفوذها على الساحة الدولية التي تغلي على وقع الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، وإعادة تشكيل المحاور في انتظار العاصفة التي قد تهبّ بعد شهر ونصف الشهر من واشنطن، وتحمل معها بوادر حرب تجارية جديدة.
عودة ترمب تفاقم التحديات:
القلق على أشدّه في المؤسسات الأوروبية من حساسية ترمب المفرطة حيال المؤسسات متعددة الأطراف، ومن استعداده للتعاون مع الاتحاد، أو إذا كان سيدير ظهره للحلف الأطلسي الذي، حتى إشعار آخر، يشكّل مظلة الدفاع الأساسية للأوروبيين. كل ذلك يحدث بينما المحرك الفرنسي - الألماني، الذي قاد الاتحاد عقوداً، يعاني من أعطال يخشى أن تصبح مزمنة، ويتقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الجبهة الأوكرانية.
وضعت رئيسة المفوضية أورسولا فون در لاين برنامج ولايتها الثانية تحت عنوان مزدوج، قوامه الأمن والازدهار، مشددة على ضرورة النهوض بالصناعات الدفاعية الأوروبية التي أهملتها بلدان الاتحاد طوال عقود، اعتمدت خلالها على مظلة الحليف الأميركي، لكن التوافق على ضرورة الإسراع في إعادة التسليح يواجه انقساماً عميقاً حول كيفية تمويله، بعد أن رفضت ألمانيا وهولندا فكرة اللجوء إلى السندات الأوروبية، وتحميل الدول الأعضاء مزيداً من الأعباء المالية.
وكانت فون در لاين قد وعدت بتقديم اقتراح مفصل للتمويل الدفاعي المشترك بحلول مارس (آذار) المقبل، واستحدثت في التشكيلة الجديدة للمفوضية منصبَ مفوَّض متفرِّغ لشؤون الدفاع يتولاه الليتواني أندريوس كوبيليوس، لكن المراقبين لا يتوقعون انطلاقة في القريب المنظور لهذا المشروع؛ لأن الاقتراح ما زال في مراحله الأولى، والصلاحيات الدفاعية ما زالت حصراً بيد الدول الأعضاء. يُضاف إلى ذلك أن ثمة مخاوف حقيقية من أن يبقى الاتحاد الأوروبي وحده في تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري لأوكرانيا إذا قرر ترمب وقف الدعم الأميركي، وهناك مخاوف أيضاً من إقصاء الأوروبيين عن طاولة الحوار الدبلوماسي المحتمل لإنهاء الحرب.
الهاجس الاقتصادي
لا يقلّ الهاجس الاقتصادي بالنسبة للأوروبيين خطورة عن المخاوف الأمنية، لكن لم تتمكن الدول الأعضاء من التوافق حتى الآن حول تحديد المسار العام الذي يجب أن تندرج ضمنه جهود الإنعاش، ولا يزال الجدل قائماً حول المفاضلة بين الإنتاجية والقدرة التنافسية، رغم أن التشخيص الذي وضعه ماريو دراغي، الرئيس السابق للحكومة الإيطالية وللبنك المركز الأوروبي، في تقريره الشهير، يُشدّد على أن الفجوة القائمة بين أوروبا من جهة، والولايات المتحدة والصين من جهة أخرى، هي القفزة التكنولوجية التي ما زالت متعثرة في بلدان الاتحاد.
وبدأت هذه الفجوة تتعمّق مع مطلع القرن الحالي، إلى أن بلغ نمو دخل الأسرة الأميركية ضعف ما بلغه في أوروبا، ومن أصل أكبر 50 شركة تكنولوجية في العالم هناك أربع أوروبية فحسب. وكان دراغي قد اقترح، لمجاراة الولايات المتحدة والصين، خطة استثمارية حتى نهاية العقد الحالي بمقدار 800 مليار يورو سنوياً.
لكن الهواجس الأوروبية لا تقف عند هذا الحد، والاتحاد ما زالت على أبوابه 9 دول مرشحة للانضمام إلى النادي، من بينها أوكرانيا، وهذا يقتضي سلسلة من الإصلاحات الداخلية الكبرى في المؤسسات، من شأنها أن تُغيّر الملامح الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية للمشروع الأوروبي. وفي طليعة هذه الإصلاحات تعديل نظام اتخاذ القرارات في المجلس لاستبدال الإجماع بالأغلبية.
رغم كل ذلك، لا يزال النقاش العام في بلدان الاتحاد يدور حول محاور أخرى، مثل الهجرة وصعود القوى اليمينية المتطرفة والقوميات الشعبوية، علماً أن تدفقات المهاجرين غير الشرعيين إلى البلدان الأوروبية تراجعت بنسبة 42 في المائة خلال الأشهر التسعة الأولى من هذا العام، بينما تواصل الدول الأوروبية تشديد تدابير مراقبة الهجرة، وتتراجع نسبة النمو الديموغرافي في معظمها.
ولتكتمل صورة الأزمات والتحديات التي تنتظر المؤسسات الأوروبية خلال السنوات الخمس المقبلة، تواجه المفوضية الجديدة صعوبة كبيرة في العمل ضمن مشهد سياسي ترسّخ فيه صعود القوى المناهضة للمشروع الأوروبي، والتي تلقى تجاوباً كبيراً في أوساط الرأي العام الذي يستمد معلوماته بنسبة كبيرة من وسائط التواصل الاجتماعي التي تتدفق فيها بشكل كبير الأنباء المُضلِّلة.
الشرق الاوسط