متلازمة مشغول جدّاً
سلمى جمو
في الماضي، كان أجدادنا وآباؤنا، أو الكبار منّا، مَن يعيش في هذا العصر، كانوا يعانون من متلازمة قتل الوقت، أو داء الملل. الأربع والعشرون ساعة كانت كافية للقيام بجميع الأعمال من فِلاحة، أو تسوّق، أو أخذ قيلولة، أو الجلوس مع الأصحاب لقضاء أوقات صحّية لأرواحهم حول صينية نحاسية أو حديدية، مع أصوات أجراس كؤوس الشاي، التي كان صاحب المقهى يصبّه، غامزاً وضاحكاً معرباً، عن أن هذا الشاي أغلى بقليل من ثمن الشاي العادي بنصف ليرة. ليصدر عن الحضور بعدها همهمات وتمتمات تعبّر عن الامتعاض والسبّ في هذا الغلاء الفاحش للشاي، والاستفسار عن سبب الغلاء، وعن ميّزته التي تميّزه عن الشاي العادي، ليكون الردّ على سؤالهم بأسلوب فكاهي: «هذا شاي بالرغوة». وعند السؤال عن كيفية الحصول على الشاي بالرغوة ومذاقه، فقد كان الجواب الدائم الذي لا يعرف التغيّر: «سرّ المهنة».
طبعاً يبدأ سبّ وشتم لجدّ صاحب المقهى وأبيه، وأنه خلّف لهما ومثلهما في النصب والاحتيال. ليعود الجميع بعد تلك المشادّة الكلامية إلى حواره الموقوف على صوت أغاني فيروز إلى ما بعد الظهر، لتنقلب فيما بعد الكاسيتات إلى صوت أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ، حسب مزاج صاحب المقهى غير المتقلّب والثابت في غالب الأحيان.
تلك القهقهات والأحاديث التافهة، عن الجار والجارة المتبرّجة، والتي بطبيعة الحال ستكون فاجرة، أو المعلّمة الجديدة القادمة إلى البلدة من المحافظة البعيدة المطلّة على البحر: «يُقال إنها من نفس مذهب القائد، لذا هي مدعومة منهم»، «إنها حاصلة على الشهادة الثانوية العامة فقط، ومع ذلك تم توظيفها كمعلّمة دائمة»، «ما هذا بحقّ السماء؟ زوجة ابن أختي متخرّجة من الجامعة، ولا زالت جالسة في البيت، لقد رسبت في فحص المقابلة»، «غيّروا الموضوع يا سادة للجدران آذان».
على كل حال، فقد كانتِ المعلّمة ذات التنورة القصيرة والساقين المكتنزين حديث أهل البلدة، وأيضاً أحاديث أخرى عن الحصاد والموسم القاحل. كان الناس وقتئذ لديهم متّسع من الوقت لفعل كل هذا، بالإضافة إلى ممارسة الجنس طبعاً بعد منتصف الليل، عندما يقومون بإطفاء الأنوار واستحضار خيال المعلّمة الجديدة. كان هناك وقت لكل شيء إلى أن دخلنا عصر العولمة، والحداثة، وما بعد الحداثة، لنتحوّل إلى آلات نلهث خلف شيء نحن أنفسنا ليس لدينا الوقت الكافي للتوقّف والتفكير لحظة في ماهية الشيء الذي نركض خلفه.
يستحضرني هنا، قصة الإنكليزي، الذي ذهب غازياً الهنود الحمر، وأرضهم، وأحلامهم، وروتينهم اليومي، عندما همّ بإقناع رئيس القبيلة باستخراج الذهب من أراضيهم، واعداً بالكثير من النقود والسفن والنساء، وكان أن حصل هذا الحوار بينهما:
– دعنا نستثمر في أرضكم، التي سيكون لكم حصة من أرباحها.
– وماذا سنفعل بالكثير من النقود؟
– تشترون بيوتاً ومصانع.
– ثم ماذا أفعل بالبيوت والمصانع؟ (ردّ مستغرباً).
– تصنعون الآلات في المصانع، وتقومون ببيعها فيما بعد، مقابل الكثير من المال.
– ثم ماذا أفعل بالنقود؟
– تذهبون إلى دول أخرى بتلك النقود، لتستمتعوا بالتنزّه والاستلقاء على شواطئها وعيش ما تبقّى من حياتكم بلا عمل أو مشقّة.
– لكن ما تعدني به أقوم به الآن. أستلقي على شاطئ البحر مستمتعاً بوقتي.
– ..........!!!
سابقاً كان اليوم الواحد كافياً لفعل الكثير من الأنشطة والأعمال مستمتعين بلحظاتنا، نستلذّ بعيش القليل المتوفّر بلذّة كبيرة. ويبقى في جيب عمرنا بضع هنيهات نحتار فيما نفعل بها! أما الآن فقد بتنا نعيش «متلازمة مشغول جداً» مع الحداثة، وما جلبتها معها الكثير من المشاغل الاستهلاكية، التي عندما ننتهي منها في نهاية اليوم ونذهب للنوم، لا يعود لدينا متّسع من الوقت للتمتّع بلحظة الاستلقاء تلك، والتعرّف على اللحاف الذي نتلحّف به، أو تأمّل الرسومات المنقوشة عليه، نغطّ في نوم عميق يحرمنا من هبة الحلم. لا يبقى لدينا الوقت الكافي لسؤال أنفسنا عمّا فعلناه في يومنا أو فيما ملأناه، لنستيقظ على نفس المنوال، نركض كالفأر المعلّق في حلقة مفرغة، يركض وهو واقف في مكانه!
الكلّ مشغول جداً، الكل ليس لديه ولو بضع ثوان ليسألك عن أحوالك، أو يدعك أنت تسأله: «هل أنت بخير؟ هل كل شيء على ما يرام، هل أنت بحاجة إلى أحد... إليّ؟». الكل يجيب عن اتصالات الكل ورسائله بعد عدّة ساعات أو يوم كامل! وأول جملة يستهلكها «كنت مشغولاً جداً، لذا لم أستطع الردّ عليك»، دون أن يضيف: «هل أنت بخير؟ هل أنت بحاجة إلى أحد... إليّ؟»، «كنت مشغولاً جداً، لذا لم أتمكّن من حضور الحفلة الموسيقية معك كما وعدتك»، «كنت مشغولاً جداّ، وعقلي ملخبط؛ بسبب مشاكل العمل، لذا نسيت عيد ميلاد ابننا».
إن جملة «مشغول جداً»، اكتسبت جماهيرية وشعبية، لدرجة تحوّلت معها إلى وسام، يحاول الكثيرون أن يتلقّفوه ويزيّنوا به صدورهم، في محاولة لإبراز مدى أهميتهم. إن الانشغال الدائم – الحقيقي أو المزيّف – أصبحت طريقة لاكتساب الشخص لاحترامه الذاتي واكتساب القبول من الآخر، والذي يتحوّل في أخطر مراحله إلى النرجسية، وشعور الفرد بأنه مركز الكون. إن هذا المصطلح أصبح مساوياً لفكرة «أنا مهم جداً»، ليكون مقياساً يُقاس به نوعية الشخص وقيمته، بالتالي يتم تحديد نوعية التعامل الذي يليق به، إما كمحور أو كهامش.
مع هذا المفهوم، تمّ فَقْد الكثير من الحميمية والروحانية في العلاقات الاجتماعية، لا أحد يهتمّ أو لديه الوقت لتأمّل وجه مَن يحب لبضع دقائق، لا أحد يفكّر في إطالة النظر في عيني طفله والركون إلى الدفء والسكون والحب الكامن فيهما، أو إعطاء قيمة معنوية للجلوس مع القريبين منه، والتمتّع بشرب كأس من القهوة أو الشاي، فقط من أجل المتعة ذاتها بعيداً عن أيّ منفعة مادية، ولسان الحال: «لا وقت لي لإضاعته في هذه السخافات، بدل من ذلك من الأفضل لي الالتحاق بذاك الاجتماع، أو الذهاب للالتقاء بذاك الشخص المشغول!».
أصبحت الاستهلاكية، هي السمة الطاغية على مجمل حياتنا، فما كان في السابق نوعاً من الفنّ أو هوايات تلزم مستوى عال من الاحترافية والخبرة، أصبح الآن متمركزاً على الجماهيرية والاستهلاكية. فالأغاني التي كانت في السابق تُكتب وتُلحّن باحترافية، ومهنية، وصعوبة، أصبحت الآن تؤلّف للحصول على أعلى مستوى من الاستماع، لتُستهلك مع تلك الألحان والكلمات أرواحنا وعواطفنا، التي بدورها تبدأ بالبحث عن السريع، والرائج لتنتقل بعد ذلك إلى رائج وجديد آخر وهكذا دواليك.
في الماضي كانت أغلب الشعارات والثورات، ضد محاولات الرأسمالية، تعليب الأفكار، أمّا الآن وبعد أن نجحوا في مرادهم، بدأوا باستهداف مفهوم «الزمن» وباتوا يروّجون لتعليب «الوقت». إن حالة الاستسلام التي نعيشها اليوم والقبول والرضا التامة، لكل ما يحدث يثير في نفس المرء حالة من الإقياء والذعر، أصبح يُواجه الآن بقبول وإقبال على ما كان مرفوضاً في السابق. بتنا نهمين للوجبات السريعة؛ الوجبات السريعة في الحبّ، والجنس، والصداقة، مع حدّ أدنى للاستهلاك، ليتحوّل كل ذلك إلى أشياء منتهية الصلاحية، غير قابلة للاستعمال مرة أخرى!
ليظل ذاك البقّال، الذي يعرض بضائع كلاسيكية، والتي تحتاج كمّاً لا بأس به من الصبر؛ ليظل هو غريباً وسط كل تلك المحلّات، التي تعرض أشكالاً وألواناً من الوجبات السريعة، التي تقوم بتحريض وتهييج الهرمونات والدماغ بكل بساطة. ليكون الإفلاس وقعاً لا مناص منه بالنسبة لذاك البقّال، الذي رفض أن يزيد من سرعة الاستهلاكية لديه.
إن الحالة الشعورية لتلك الكتلة المنبوذة، والغربة التي يعيشونها، والشعور المسيطر على ذواتهم بأنهم هم المخطؤون، هؤلاء الذين لا يجدون أي ضير من الوقوف لساعة أو أكثر أمام لوحة فنية ما، أو الجلوس مع مَن يحبون دون أن يمارسوا أيّ نشاط – فقط الجلوس لأجل الجلوس – الذين لا يهمّهم أن يكونوا مشغولين جداً، هذا النوع الذي بدأ بدخول إشكالية سحب روحه منه والذهاب بها إلى غرف التحقيق، والتحقّق من ماهية وضعه الصحي، وتشخيص نوعية مرضه، دون النظر في احتمالية أن يكون هو المعافى؛ ذلك أن الأكثرية هي المعافى بالضرورة!
هذه الفئة التي سيظل يصعب عليها التأقلم مع «القرية الكبيرة»، هذه القرية التي كانت في السابق وعلى الرغم من صغرها، إلا أنها تحوي في مركزها كمّاً هائلاً من المشاعر، والعواطف، والأفكار الكثيفة الدافئة بعيداً عن برودة ورمادية جدران الاستهلاكية الفولاذية. القرية التي على الرغم من ضيق مساحتها الجغرافية، إلا أنها تحمل طاقة ترابط تكفي لهدم اللامبالاة التي تأسّست عليها «القرية الكبيرة».
لكن وعلى الرغم من أن هذه الفئة «الشّاذة» في عين العامة، هي الفئة التي ستكون الرادع الوحيد في وجه تلك السيارة السريعة التي تقودها الاستهلاكية، لتأتي تلك اللحظة التي لا مفرّ منها، لحظة الاصطدام... لحظة الصفر وما بعدها.
تلك اللحظة التي سيتم بعدها إعادة تكوين الذات البشري بعيداً عن عبثية العبث ذاته. الأعين التي تمت استهلاكها، وكذلك العواطف، والمشاعر، والأفكار، ستتم هيكلتهم بما يليق بالوجود البشري الذي سيرتقي من البشرية إلى الإنسانية. فقد كان التاريخ ولا يزال وسيستمر بتكرار نفسه من خلال الثورات التي تخلقه، التي بها حافظ ولا يزال الجنس البشري يحافظ على وجوده.
باسنيوز