المسألة الكردية، وأزمة الحكم في تركيا
شوان زنكَنة
يبدو أنّ المسألةَ الكردية سترسمُ مستقبلَ نظام الحكم في تركيا، فقد أظهرَ "دولت باهجلي"، رئيس حزب الحركة القومية، على غير عادته، رغبةً جادّةً في السماح لعبد الله أوجلان أن ينال "حقّ الأمل"، أي: حقّ الأمل في العفو عنه، في مقابل حلِّ حزب العمال الكردستاني، وإنهاءِ الصراع العسكري المُزمِن في تركيا.
وقد جاءت هذه الرغبةُ على غير ما تشتهيه سفنُ الرئيس أردوغان، الذي اعتبرَ هذه الحملة، غيرَ المُتوقَّعة، من دولت باهجلي محاولةَ التفافٍ على تحرّكاته الرامية إلى صياغة نظامِ حكمٍ جديد، لا يستندُ على دعم حزب الحركة القومية.
وقد شهدت الساحةُ السياسية التركية، منذ سنوات قليلة مضت، صراعًا، كان يطفو على السطح في بعض الأحيان، بين التيّارَينِ، الإسلامي التركي والقومي اليميني التركي، داخل حزب العدالة والتنمية، وبين حزبَي الإتلاف الحكومي، حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، ثم اتّخذَ هذا الصراعُ شكلَ حملاتٍ سياسية مُتضادَّة بين الطرفين، بدأتْ باللقاء السياسي بين الرئيس أردوغان و"أوزغور أوزال"، رئيس حزب الشعب الجمهوري، واحتماليةِ التقارب بينهما، وتفاقمتْ بعد تَسرُّبِ أخبارِ المحادثات السرية بين القيادة المحيطة بأردوغان وعبد الله أوجلان، حول سبُلِ حلِّ القضية الكردية، والتي اعتبرها دولت باهجلي التفافًا على حزبه، وشكلًا من أشكال تَنحِيَتهِ، وتَهْميشهِ، وتَصْفيةِ تواجُدِه داخل أركان الدولة العميقة بعد أول انتخاباتٍ قادمة.
وفي حملة مضادَّة لتحرّكات أردوغان، قام باهجلي بفتح الباب على مصراعيه أمام أوزغور أوزال وحزبِه للتقارُب والمشاورات بشأن المستقبل السياسي لتركيا، كما وأعلنَ عن مشروعه لإنهاء الصراع العسكري مع حزب العمال الكردستاني من خلال دعوتِه لإصدار العفو عن عبد الله أوجلان.
سيجدُ الائتلافُ الحكومي نفسَه على المِحَكِّ أمام قضايا مصيرية، محلية وإقليمية، بالنسبة له، وهي: انتخاب أردوغان لدورتين رئاسيَّتَين قادمتَين، وطبيعة النظام السياسي الذي سيسودُ مستقبلًا في تركيا، والمسألة الكردية، وتأسيس الدولة اليهودية، والدور الإيراني في المنطقة.
يستمدُّ دولت باهجلي، وحزبُه، وجودَه في أركان الدولة العميقة من أردوغان ورئاستِه للجمهورية، لذلك دعَا إلى تغيير الدستور لِيتسنّى لأردوغان التّرشّحُ للرئاسة لدورتَين قادمتَين، وأفصحَ بصراحةٍ عن نيّته هذه، إلا أن تطوّرات القضية الكردية، محليًّا وعالميًّا، وتحرّكات أردوغان بهذا الخصوص أربكَتْ جبهةَ حزب الحركة القومية، فسارعَ دولت باهجلي بتقديم عرضِه لِحلِّ المسألةِ الكرديةِ، بصيغةٍ لا تنسجمُ مع تحرّكات أردوغان، وهو ما جعلَ أردوغان يُحجِمُ عن تأييد مبادرتِه هذه، قناعةً منه بأن هذه المبادرةَ غيرُ مُجديةٍ في حلِّ القضية الكردية، من جهةٍ، وخشيةً من سحبِ البساط من تحته، وتسجيلِ حلِّ القضية الكردية باسم دولت باهجلي، من جهةٍ أخرى، الأمرُ الذي يتسبّب بِنَسْفِ مخطّط أردوغان بهذا الخصوص.
ومع تَسارُعِ الأحداثِ في فلسطين ولبنان وسوريا، وتعاقُبِ تصريحات نتانياهو حول الدولة اليهودية، وتصريحاتِ المسؤولين الإسرائيليين حول الأكراد، تزايَدتْ مخاوفُ الائتلافِ الحكومي التركي من مخطّطات الغرب بخصوص المسألة الكردية، لذلك سارعَ الائتلافُ الحكومي التركي إلى تبنّي إجراءاتٍ يَعتقدُ أنها تؤدّي إلى حالة السِّلم في ظلِّ النفوذِ التركي، ولعدمِ وجودِ مشروعٍ جاهزٍ بهذا الشأن، دبَّ الخلافُ بين رُكْنَيِ الحكمِ في تركيا، ودفعَهما إلى حساب البدائل المُحتمَلة لإدارة الحكم مُستقبَلًا.
يسعى أردوغان للتفاهُمِ مع حزبِ الشعب الجمهوري المُعارِضِ، وحزبِ الشعوب الديمقراطي الكردي على تغييرِ الدستور، وتثبيتِ بعض الامتيازات الدستورية للأكراد، وإنهاءِ الوجود الكردي المسلح، بعيدًا عن حزب الحركة القومية، ويسعى دولت باهجلي إلى التفاهُم مع حزب الشعب الجمهوري لترشيح "منصور ييفاش"، رئيس بلدية أنقرة عن حزب الشعب الجمهوري، ذي الخلفية القومية التورانية، في الانتخابات الرئاسية القادمة، كبديلٍ لأردوغان، من جهةٍ، ويسعى، في نفس الوقت، إلى بسطِ نفوذه على القضية الكردية من خلال مُبادرتِه بالعفو عن عبد الله أوجلان، وإنهاءِ النشاط الكردي المسلح، من جهةٍ أخرى.
ومن وجهة النّظر الكردية في تركيا، يبدو المنظرُ مُبهَمًا للأكراد، فانعدامُ الثّقة بينهم وبين الحكومات التركية المتعاقِبة، وعدمُ وضوحِ نوايا وخُطَط ِالائتلاف الحكومي، أو بالأحرى، عدمُ وجودِ مشروعِ سلامٍ مطروح من قِبَلِهِ، والتَّرقُّبُ الكردي، المقرونُ بالأمل، للتطورات السياسية والأمنية في الشرق الأوسط، وارتباطُ السلاح الكردي بقوى خارجية، إقليمية وعالمية، والإجراءاتُ الحكومية الأخيرة تجاه بعضِ رؤساء بلديات حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، كل ذلك، سيُعيقُ مساعي الائتلاف الحكومي الرامية إلى إنهاء النزاع المسلح في تركيا، وبالتالي، سيُعرقلُ دخولَ إقليم كردستان العراق، وشمال سوريا تحتَ النُّفوذِ التركي، ضمن اتفاق سلامٍ برعايةٍ دولية، ما لم تَتدخَّل الجهاتُ الخارجية الراعية للتحالف التركي الكردي.
وأيضَا، من وجهة النظر الكردية، فإن مبادرةَ دولت باهجلي، والمحادثاتِ السريةَ بين القيادةِ المُحيطة بالرئيس أردوغان وقياداتٍ كردية، تُعتبَرُ تطوراتٍ إيجابيةً باتجاه سلامٍ دائمٍ، على الرغم من المنظرِ المُبهَمِ المقرونِ بواقع الحال، لذلك، أخذَ الأكرادُ مَوضعَ الانتظارِ والتّرقُّبِ الحَذِرِ.
وبغضّ النظرِ عمّا يجري داخل تركيا وخارجها، فإنه واضح للعيان أن القضية الكردية قد طَفَتْ على الساحة السياسية في الشرق الأوسط، وأنها ستَطغَى على الأحداث في المنطقة، وأنها ستلعبُ دورا مهمًّا في رسم خارطة الدول وتحالفاتِها، ليس كلاعبٍ فاعلٍ، وإنّما كحليفٍ قوي للقوى الغربية الفاعِلة في المنطقة.
ويبدو أن القوى السياسية الكردية في المنطقة قد أدركتْ هذه الحقيقةَ، ولكن الصورةَ ما زالت ضبابيةً أمامها، ولا بدّ لمزيدٍ من الوقت كي تتّضحَ معالمُ السياسة المُتَّبَعةُ من قِبل القوى الفاعلة في المنطقة، فتَراجعُ الدورِ الإيرانيِّ، رُويدًا رُويدًا، ومجابَهةُ الأمرِ الواقعِ المُتمَثَّلِ بالتحالف التركي الكردي الذي يبدو أنه لا مَفرّ منه، ستُزيلُ العوائقَ أمام الأكراد لتحقيق حقِّ المصير، وإنشاءِ العلاقات والتحالفات وفق مصالحهم.
وسوف تكون تركيا محورَ التغيير في المنطقة، من خلال القضية الكردية، ودورِ تركيا في إقليم كردستان العراق وشمال سوريا، سواء في ظلِّ النظام الحاكم حاليًّا، أو في ظلِّ أي نظامٍ سياسي آخر.
والسؤالُ الوجيهُ المطروحُ هنا، هو: هل تستطيعُ القوى الكردية في المنطقة، ونظامُ الحكم في تركيا التَّناغمَ مع مُستجدَّاتِ الأحداثِ، والسياساتِ التي ستَتَّبِعُها أمريكا وإسرائيل في المنطقة؟
وهل ستَتمَكَّنُ القوى السياسية الكردية، الوطنية والإسلامية، من التصدّي للآثار السلبية لهذا التّناغُمِ، وتُجَنِّبُ الشعبَ الكردي من أن تكون أداةً لتحقيق مصالح الغير على حساب مصالح الشعب الكردي وأجيالِه القادمة؟