• Thursday, 02 January 2025
logo

بارزان الوجع الابدي

بارزان الوجع الابدي

محمد زنكنة

 

تباهى رجل العراق الاول في ثمانينيات القرن الماضي بتنفيذ هدف كان يخطو اليه وبطريقته المعتادة، وكانه حقق منجزا اعاد فيه نصف شط العرب الذي تنازل عنه في عام 1975 لايران على اثر توقيعه اتفاقية الجزائر مع الشاه وحل مشكلة المياه مع تركيا ووضع حدا للخلافات النطفية مع الكويت وحسم مشاكله مع سوريا.

تباهى هذا الرجل وامام الملأ وبحضور عدسات التلفزيون العراقي الرسمي بانه ارسل اناسا..غرباء؟ لا على العكس بل مواطنون يحملون الجنسية العراقية وولدوا وعاشوا في مناطقهم، ارسلهم الى الجحيم وسط تصفيقات حارة من الحضور ان كانت ترهيبا او ترغيبا وفي كل الظروف (ياويل اللي مايصفق).

عد رئيس النظام السابق جريمته المرتكبة بحق اكثر من ثمانية الاف بارزاني وتحديدا من الذكور بانها انتصارات تحققت في ظل محاربة ماسماه بالعدو الغاشم الذي يستهدف وحدة وسلامة العراق في وقت كانت كفة الحرب تميل الى الجانب الايراني وكانت هذه القوات قد وصلت الى تخوم البصرة بل كانت على وشك احتلالها، اذن ما الحل للخروج من هذه المعضلة التي اغرق صدام نفسه بها؟ عشق السلطة والحكم يفرضان مبدا الغاية تبرر الوسيلة وفي هذه الحالة يعتبر القتل والابادة الجماعية لاية تجمعات من الممكن ان تكسب النظام مزيدا من النقاط امام الراي العام من اسرع الطرق للتغطية على مشاكله وازماته على اكثر من مستوى، وقد حصل فعلا ماكان يريده مع انه لم يحقق الهدف الحقيقي المطلوب الذي كان يصبو اليه منذ زمن بعيد.

المقصود هنا في الحديث عن الفعلة التي سماها صدام بالمنجز والذي تباهى به من اطلق على نفسه لقب (حامي البوابة الشرقية) وهو اول من استباحها في الثاني من اب/اغسطس 1990، جريمة الابادة الجماعية بحق البارزانيين والتي سميت بحملات (الانفال) تيمنا باسم سورة من القران الكريم، حيث بدا التخطيط لها منذ سبعينيات القرن الماضي وتحديدا بعد اتفاقية الجزائر لعام 1975 بتهجير البارزانيين من قراهم ومناطقهم وهدم وحرق بيوتهم وبساتينهم ثم ابعادهم الى جنوب العراق واحتجازهم في المجمعات القسرية لينقلوا بعد ذلك وفي عام 1980 الى مجمعات اخرى خصصت لهم في قوشتبة وهرير وديانا ومجمعي القدس والقادسية.

المرحلة الثانية كانت اكثر قسوة ومنها بدات بقية المراحل للابادة الجماعية التي شملت كوردستان من اقصى مندلي وخانقين وبدرة وجصان وصولا الى اخر نقطة من كرميان وبادينان واربيل، ففي الحادي والثلاثين من تموز/يوليو 1983 بدات القوات المسلحة التابعة للبعث والتي من المفروض ان تكون منهمكة بمقاتلة الجيش الايراني، بحملة شعواء لاعتقال وخطف المحتجزين من البارزانيين في المجمعات القسرية وتحديدا من الذكور ومن عمر التاسعة الى عمر التسعين ودون اي استثناء او رحمة واخذهم الى صحاري جنوب العراق حيث دفن الكثير منهم وهم احياء واعدم بعضهم رميا بالرصاص وكثير منهم سلموا الروح تحت تاثير التعذيب القاسي الذي تعرضوا له على يد عناصر الامن الصدامي.

ولم يكتفي النظام بذلك، بل نفذ حملة تسميم واسعة طالت عوائل وذوي الرجال الذين اخذوا الى صحاري جنوب العراق والذين اسكنوا قسرا في المجمعات من خلال مياه الشرب التي كانت تجلب للمخيمات عن طريق العجلات الخاصة بنقل مياه الشرب (التنكرات)، هذا التصرف ايضا حصد ارواح المئات من الابرياء الذين فقدوا ذويهم لا لذنب اقترفوه، بل لانهم كورد وبارزانيين.

اتذكر جيدا يوم الثامن عشر من كانون الثاني/يناير من عام 2005 عندما شهد مطار اربيل الدولي استقبال اول دفعة من رفاة شهداء بارزان بحضور الرئيس الراحل جلال طالباني والرئيس مسعود بارزاني وكنت متواجدا في تغطية هذا الحدث عندما كنت مراسلا لصحيفة (خَبات – النضال)، قادني الفضول في ذلك الحين لمعرفة المزيد من القصص حول هذه الجريمة، لكنني لم اكتشف سوى ماساة لايتحملها اي عقل او منطق بل حتى اكثر المجرمين احترافا لايمكن ان ينفذ كل هذه المخططات، لم اجد عائلة الا وقد ذكرت ما لايقل عن عشرة او عشرين شهيدا من ذويهم من ضحايا هذا اليوم، فكل بيت في بارزان فيه شهداء وبكاء ونحيب وامل ضعيف بعودة ذويهم المفقودين.وبسؤال لرجال الدين عن المبرر الذي تحجج به النظام لتنفيذ فعلته اجمعوا وبصوت واحد على ان الدين والقران الكريم لايمتان باية صلة لهذا الموضوع لكن صدام اراد ان يغلف هذه الجريمة بغطاء الدين بالاضافة الى شعاراته القومية التي كانت تنادي بالوحدة والحرية والاشتراكية واي منها لم يطبق طيلة فترة حكمه.

وبمزيد من القراءة والتعمق في قصة هذه الجريمة، عاد بي زمن المتابعة لعام 1970 اثناء المفاوضات التي ادت الى توقيع اتفاقية الحادي عشر من اذار حيث تراس صدام حسين وكان في تلك الفترة نائبا لرئيس الجمهورية الوفد العراقي للتفاوض مع القيادة السياسية لثورة ايلول، وفي اكثر من زيارة لمقر البارزاني الخالد في حاج عمران لاحظ صدام مدى حب وعشق وتعلق الناس بالبارزاني والتفافهم حوله وبساطته التي كانت تضاعف هذا الحب في نفوس الجماهير، فان كانت هذه مشاعر مواطني كوردستان فكيف باهل بارزان وسكان هذه المنطقة؟ لتحرك هذه المشاهد عقدة النقص التي كانت تحتل نفسية صدام ويفكر مليا باية طريقة تؤدي الى التخلص من البارزاني وكل من ينتمي لهذا الاسم بدليل محاولة اغتيال البارزاني في التاسع والعشرين من ايلول/سبتمبر 1971 ومحاولتين لاغتيال الشهيد ادريس بارزاني في بغداد ومحاولة اغتيال الرئيس مسعود بارزاني في فيينا عاصمة النمسا في عام 1978 .

وبعد اتفاقية الجزائر ايقن صدام بان البارزانيين لن يستسلموا وان محاولات شق الصف الكوردي لن تفيده بشيء وان من معه من الخونة لن يكونوا اكثر من ادوات اعلامية يضحك بها النظام على الراي العام الجماهيري والعالمي لذلك لجأ الى ارتكاب هذه الجريمة ظنا منه انه سينهي نسل البارزانيين بعد اقتياد اكثر من ثمانية الاف من الذكور مع محوه لكل الاثار المتعلقة بهذه المنطقة بتخريب كامل للقرى والقصبات المحيطة ببارزان بحجة تنفيذ مشاريع تفيد الاقتصاد العراقي.

اليوم وبعد اكثر من اربعة عقود على هذه الجريمة وبجولة في بارزان سيرى الزائر فيها وجوها مبتسمة، لكنها تحمل الكثير من الهموم وجبالا من الحزن وتراكمات حكيت وانتقلت من جيل الى جيل، جيل شهد مخيمات قسرية واعتقال وتسميم، وجيل اخر ولد وعاش في اكثر من حصار وحرب وانتقال ولم يسمع اكثر من اصوات العويل والنحيب وجيل ثالث فتح عيناه على توابيت خشبية لجثث مجهولة الهوية لايعرف افراده من يكون الجد او العم او الخال.

لكن الصدمة والمفاجاة الكبرى للبعث ورئيسهم كانت كبيرة وغير متوقعة، حيث لم يلجأ اي فرد من بارزان الى حركات ثأرية بعد انتفاضة عام 1991 بل ان الرئيس مسعود بارزاني عبر بحورا من الدم في طريقه الى بغداد للبحث عن اية طريقة من الممكن ان تساهم في حقن دماء العراقيين واحلال السلام في البلاد، وبعد السقوط الفاضح في التاسع من نيسان 2003 واعتقاله في 13 كانون الاول/ديسمبر 2003 واحالته الى المحكمة كانت الصدمة اكبر برؤيته لهذا العدد المهول من الشهود الذين تحدثوا عن بشاعة هذه الجريمة بكل تفاصيلها وهذا ما اثبت حقيقة اخلاقيات بارزان العليا في التعامل مع الصديق والعدو.

بارزان اليوم بعيدة عن الارهاب وابوابها مفتوحة للجميع وتستقبل يوميا الالاف من الزوار دون ان تسال عن اية هوية قومية او دينية او مذهبية، بارزان استعادت نضارة بساتينها وبيئتها وحيواناتها البرية، لكن الارواح التي راحت ضحية لارهاب الدولة والحزب الحاكم لن تعود وسيبقى وجع فقدانها قصة تتناقلها الاجيال ونقطة سوداء في جبين الانسانية وخصوصا، ان حكومات مابعد صدام وكوارثة قانونية لها لم تنفذ ايا من البنود التي نصت عليها احكام المحكمة الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب من النظام السابق فيما يخص تعويض ذوي الضحايا ومازال صمت الانسانية مستمرا، ومازالت بارزان تئن كلما يسمع اي من ابنائها كلمة (انفال).

 

 

 

كوردستان24

Top