القيمةالجيوبولتيكية والجيوستراتيجية لكوردستان
أ.د.فؤادحمه خورشيد- حصرياً لـ گولان العربی
يحظى المكان، وموقعه، في الدراسات الجغرافية باهتمام خاص ومتميز، لما لدوره البارز في التحليلات الجغرافية في إظهار نتائج وتبعات ذلك الموقع ، من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسلوكية والجيوبولتيكية، وبيان أثرها على مصير سكانه ومستقبلهم السياسي، سواء أكان ذلك المكان، إقليما ،أو دولة، أو قارة بأكملها . وقد تمتع مكان كوردستان وموقعها الجغرافي، عبر التاريخ، بقيمة جيوستراتيجية و جيوبولتيكية كبيرة للاعتبارات التالية :
1- موقعها الجغرافي الخطير الذي جعل من جغرافيتها التاريخية مسرحا جيوبولتيكيا لتقرير نتائج ومصير العديد من المعارك الإمبراطورية، للعديد من الأمم الغازية ( لوقوعها عند حافات تلك الإمبراطوريات وفي ملتقى طرق الحضارات)(1)، مشكلة بذلك ( جسرا يربط هضبة الأنضول بهضبة إيران والذي انتقلت عبره حضارات الشرق والغرب)(2). وكما يقول البروفسور سولكي:( إذا كان الشرق الأوسط هو ملتقى تلك الطرق العالمية فأن كوردستان هي قلب ذلك الشرق الأوسط)(3). من هنا تنبع مطامع الحكومات والدول المجاورة واهتماماتها بأرض كوردستان وجبالها و ثرواتها، فهي حلقة الوصل الجغرافية الرابطة ما بين أواسط أسيا، وجنوب غربها من ناحية، و ما بين قارات العالم القديم من ناحية ثانية.*
كما أنها تشكل الفسحة القارية التي تملأ معظم الامتدادات الجغرافية الواصلة ما بين أربعة مسطحات مائية هي: بحر قزوين والأسود والمتوسط والخليج العربي، لذا فأن هذا الامتداد الجيوستراتيجي لهذه البلاد هو الذي يفسر اهتمام الإمبراطوريات القديمة والقوى المعاصرة بكوردستان، مثل روسيا القيصرية ثم الاتحاد السوفيتي ومن بعدهما كل من الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية.
2- مساحة كوردستان التي تقدر ب(500،000)كيلومترا مربعا(4)، والتي تعتبر من الحجوم الكبيرة في مقاسات الدول حسب تصنيفات الجغرافية السياسية(5) . تغطي معظم هذه المساحة سلاسل جبال زاجروس وأنتي طوروس ألبالغ طولها في كوردستان حوالي 1900كم والممتدة من مشارف خليج الاسكندرونة غربا وحتى الزاوية الشمالية الشرقية للخليج العربي مشكلة إحدى دعائم القوة لهذه البلاد من الناحيتين الدفاعية والاقتصادية نظرا لامتدادها الجبلي المحيطي الواسع، إضافة الى كونها كانت منذ العصور التاريخية، ولا تزال، ( الوطن القومي للأمة الكوردية)(6) ، و(موطن الكورد الأول) (7).
وفي الجغرافية السياسية، تحضي المساحة الكبيرة، باهتمام خاص عند حساب عناصر القوة الجغرافية الكامنة لأي إقليم أو دولة، لاعتبار ان أي بقعة منها يمكن ان تحتوي مستقبلا على موارد طبيعية غير مكتشفة، كما هو حال بترول كوردستان في العصر الحديث . لقد أثبتت التجارب التاريخية، كما يوءكد الأستاذ جمال حمدان، (ان لكل شبر من الأرض قيمة سياسية، منظورة وغير منظورة، كامنة أو كائنة، فمنطق المساحة عمق ستراتيجي هام وحاسم وشرط للحماية)(8) .وبالتالي فان اكتشاف النفط في كوردستان في أوائل القرن الماضي منح هذه الأرض وموقعها ومساحتها قيمة وعنصر قوة إضافيين.
3- أهميتها الستراتيجية المتحكمة بقلب الشرق ألأوسط، وممراته ومفاتيح اجتيازه، التي كانت في نظر الغزاة عقدة أرضية تقف حائلا دون انجاز مطامعهم التوسعية شرقا
أو غربا،إذ كانت جبال كوردستان حاجزا طبيعيا بوجه التوسع الإمبراطوري منذ سرجون الا كدي(2371_2316 ق.م ) . كما أخفقت إمبراطوريات أور وأشور وبابل المتعاقبة أيضا في اختراق حاجز جبال كوردستان اختراقا كاملا .كما خلقت هذه الجبال عوائق وصعوبات جمة لكل الغزاة مغولا كانوا أم تتار، بيزنطيين أو أتراك أو عرب. يقول بافيج:( ان مطامع الدول المختلفة بكوردستان نابع أولا من أهمية موقعها الستراتيجي كمنطقة دفاعية بالنسبة لإقليم الأنضول وبلاد ما بين النهرين وإيران)(9). وهي أيضا دفاعية ومن طراز خاص بالنسبة للكورد أنفسهم، فالمساحة الكبيرة وطبيعتها الجبلية وشعبها الجسور منح قيمة إضافية لأهمية جبال كوردستان الستراتيجية عبر كل مراحل التاريخ القديم والوسيط والمعاصر على حد سواء. لذا تقول ماريا بحق فيما يحص الأهمية الستراتيجية لكوردستان ان (موقع كوردستان شكل تاريخها ، وحدد أهميتها الإقليمية والعالمية ، وهو العامل الأساسي في فشلها في الحصول على الاعتراف الدولي بهويتها كدولة)(10).
ولعل ابرز قول في الأهمية الستراتيجية لكوردستان، كإقليم متميز داخل الحيز الجغرافي لمنطقة الشرق الأوسط، ودور جبالها في حماية الشعب الكوردي واستقلاليتها الحضارية والثقافية ، هو قول، الميجر بورتن : ( ان جميع الإمبراطوريات الكبرى التي برزت وسقطت من حولهم، وكل الغزاة الذين عبروا من وطنهم من الشرق الى الغرب وبالعكس، فشلوا جميعهم في ترويض الكورد وفرض ثقافتهم عليهم، فكل من الأشوريين والإغريق والرومان والبارثيين والفرس والعرب والمغول والترك جربوا ذلك وفشلوا في إخضاع هذا الشعب الجبلي)(11).
4- وظيفتها الجيوبولتيكية البينية العازلة، كسلاسل جبلية متصلة بشكل قوس محيطي كبير، لأعراق مختلفة، كالهندو- أوربية، و الطورانية، والسامية.من جهة، وبين حضارات وثقافات مختلفة أيضا، كالتركية ، والفارسية، والعربية من جهة ثانية ، وبين أقاليم بيئية متباينة كهضبة إيران وصحاريها الداخلية، وهضبة الأنضول شبه الجافة، وبوادي العرب القاحلة . لذا فان بيئة كوردستان الرطبة وشبه الرطبة ،ومناخها البحر متوسطي ، وغناها النباتي، و الحيواني .والزراعي، وامتدادها بين بيئتين فقيرتين طاردتين للسكان، شكلت إقليما أكثر إغراء للقوى الخارجية، وهذا ما منح موقعها الجغرافي، على الدوام قيمة كبيرة عبر التاريخ.من هنا توالت الضغوط السياسية على الأمة الكوردية وهو ما يفسر أيضا ، لماذا كانت كوردستان مرارا ضحية لسياسات القوى الخارجية الغازية، القريبة والبعيدة ،على حد سواء وهذا ما يفسر، كما يقول فيرجريف. (ظاهرة خروج الجماعات الرعوية الغازية عبر التاريخ من تلك البيئات الجافة نحو هذه البلاد الجبلية الغنية بمواردها الطبيعية المختلفة لتنشر الرعب والاضطراب بين سكانها الكورد القاطنين في كوردستان عند حافات تلك الصحاري) (12)، كلما عانوا في سني القحط والجفاف، من الجوع والحرمان . وكما يقول البروفسور رايت ، أستاذ الجيولوجيا في جامعة منسوتا الأمريكية، حول الوظيفة الجغرافية لكوردستان: (ان هذه الجبال تفصل سهول ما بين النهرين عن هضاب إيران والأنضول، وتقسم جنوب غرب أسيا جيولوجيا، وفيزيوكرافيا، ومناخيا، وثقافيا، كما خدمت كحاجز مؤثر بوجه التدخل الثقافي بين شعوب ما بين النهرين وشعوب داخل تلك الهضاب ، وإنها تشكل مراع خصبة مغرية للرحل وأشباه الرحل، سكان الأراضي الواطئة المحيطة بها، وفي الوقت نفسه أمنت لسكانها الكورد الجبليين معاقل حماية أمنة) (13).
وبسبب هذه الوظيفة الجغرافية العازلة لكوردستان، وامتدادها الشاسع، من خليج الاسكندرونة الى الخليج طولا ، ومن جبال ارارات الى جبال حمرين عرضا، وللموقع البيني الذي تتمتع به ، فقد أصبحت كوردستان ، كما تقول ماريا أوشيا : بموقعها المحيطي هذا تؤدي وظيفة الإقليم أو ألمنطقة العازلة Buffer Zoneمن الناحية الجيوبولتيكية لأنها تحتل موقع التماس بين أقاليم العديد من الحضارات والأجنا س) (14).. ومن قوانين الوظيفة العازلة في الجغرافية السياسية هي أنها في الغالب ، كما تقول مس سامبل ، ( تتولد منها دولة حاجزة ) . (15) ويمكن ان تكون جبال كوردستان كذلك.
الهوامش:
1- Cart Dahlman، (the political Geography of Kurdistan)، Eurasian geography and economics، vol.43، no.4، 2002، p.271
2-General staff، Mesopotamia expeditionary force، Military report on Mesopotamia، (Aria 9)، Central Kurdistan، Simla، Government monotype press، 1920، p.1
3-Ralf S. Solecki، (Shanider: the first flower people)، Alfred A. Knopf، New York، 1971، p.14
* قبل تحول طرق التجارة الدولية في العالم القديم من الطرق البرية الى الطرق البحرية ، بعد اكتشاف فاسكودي كاما رأس الرجاء الصالح عام1497 ، كانت كوردستان هي ملتقى تلك الطرق البرية (طرق القوافل)، كالطريق الإمبراطوري الذي فتحه الملك الفارسي داريوس في الحقبة الأخمينية والممتد من سوسه الى ساردس عبر اربيل والذي كان يخترق معظم أراضي كوردستان وطريق الحرير الذي كان يربط الشرق الأقصى بأوربا عبر أراضي كوردستان مع ذلك ضلت كوردستان تتمتع بنفس الأهمية من النواحي العسكرية والإستراتيجية (السوقية)لجيوش القوى المحيطة بها.انظر:
Maria T.O shea، (Trapped between the map and reality: Geography and perception of Kurdistan)، Routledge، New York، London، 2004، p.18
وكذلك:جوناثان راندل،(أمة في شقاق: دروب كردستان كما سلكتها)، ترجمة فادي حمود، دار النهار، بيروت،1997،ص31
4- خارطة كوردستان مطبعة أليأس، القاهرة، 1947،الملحق ، وذكرت دائرة المعارف الفرنسية أن مساحة كوردستان تبلغ530000 كيلو مترا مربعا، وأشارت إليها ماريا أوشيا بأنها ما بين 400000 - 450000 كيلومترا مربعا ، راجع :
1-Encyclopaedia Universalis، vol، 9، 1968، p.719
2-Encyclopaedia Universalis، Corpus 13، 1989، p.380
3-Maria T.O shea، op.cit. p.18
5- تصنف أحجام ألدول(مساحاتها)في ألجغرافية ألسياسية وفق ألاتي :
أ-دول صغيرة جدا مساحتها أقل من 25000 كم مربعا مثل لبنان .
ب-دول صغيرة مساحتها ما بين25000كم مربعا- 150000كم مربعا مثل هولندة.
ج-دول متوسطة مساحتها ما بين 150000-350000 كم مربعا مثل بولندة.
د-دول كبيرة مساحتها ما بين 350000- أقل من 2،5 مليون كم مربعا مثل فرنسا و (كوردستان) .
ه-دول كبيرة جدا تزيد مساحتها عن 2،5 مليون كم مربعا مثل كندا وروسيا . وهناك دول أخرى تسمى بالدول القزمية مساحتها ما بين نصف كم مربعا ، مثل الفاتيكان ، و62 كم مربعا مثل سان مار ينو. أنظر:-
Martin Ira Glassner، (Political Geography)، Johnwiley&Son Ibc، New York، Singapore، 1993، p. 66
6-General staff، op. cit.، p1
7- دانا ادم شمدت ، (رحلة الى الرجال الشجعان) ، ترجمة جرجيس فتح الله المحامي ، مكتبة دار الحياة ، بدون سنة طبع ،ص 342
8- جمال حمدان، (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى:دراسة في الجغرافية السياسية) ومكتبة مدلولي ، القاهرة ، 1966 ، ص342
9- بافيج ، ( كردستان والمسالة الكردية ) ، ترجمة برو ،ط1 ، 1978، ص
10-Maria T. O Shea، op. cit.، p.189
11-Major H. M. Burton، (The Kurds)، Journal of Royal Central Asian society، vol. Xxxi، part 1، January، 1944، p.72
12- جيمس فيرجريف ، (الجغرافيا والسيادة العالمية )، ترجمة علي رفاعة الأنصاري ومحمد عبد المنعم الشرقاوي ،مكتبة النهضة العربية ، القاهرة ، 1956، ص97
13- H. E. Wright، (Pleistocene glaciations in Kurdistan)، Elsceitaltier und Gegenroaart، Band 12،spite، 131-164، Ohringer،Wurtt1،November1961،p.136
والترجمة العربية: ه. ا. رايت ، (العصر الجليدي البلاستوسيني في كوردستان) ،ترجمة فؤاد حمه خورشيد، مطبعة دار الجاحظ ، بغداد، 1986، ص17
14- Marsh، Dwight W.،) the Tennesseean in Persia and Koordistan (، Philadelphia: presbyterian Board of publication، 1869، p110. and: Maria T .O shea، op.cit. pp.19، 25
15-Ellen Churchill Semple، (Influences of Geographic Environment on the basis of Ratzel system of Anthropo-Geography)، Kentucky، 1911، p.440