• Monday, 29 April 2024
logo

مستقبل المدن العالية.. دهوك نموذجاً

مستقبل المدن العالية.. دهوك نموذجاً

اذاد احمد علي 

 

قد يتفاجأ الدارس إذا قرأ كتاباً يونانياً أو رومانيا تجاوز عمره ألفي سنة بوجود معلومات دقيقة حول الأماكن التي تناسب تشييد المدن. وكذلك قد تصدمه كثافة المعلومات العلمية التي تناقلتها كتب التراث العمراني والجغرافي عبر العصور حول خصائص المدن وصفاتها ومدى سلامة بيئتها وهوائها، تعداد وترجيح ميزات تلك المدن.

فكثير من المدن التاريخية قد شيدت على أسس علمية، وكان اختيار موقعها موفقاً ومناسباً للحياة الحضرية، سواء اشتهرت تلك المدن أم لا. لكن أغلب المدن التي نعرفها، وحتى تلك الشهيرة والمميزة منها قد شيدت مصادفة، فهي مدن المصادفة، لذلك نمت وتوسعت في بيئة جغرافية غير مناسبة للحياة حضرية، وإنما لنمط الحياة الريفية، وهذا ما يفسر ذم ونقد كثير من البلدانيين والرحالة لعدد من تلك المدن عبر التاريخ، خاصة المدن المشيدة في الأراضي المنخفضة.

ما أود التركيز عليه أن أغلب المدن الناجحة والمميزة قد شيدت على سفوح الجبال، أو فوق عدة هضاب متجاورة: (أثينا وإسطنبول، ماردين ودمشق، عمان وبيروت)، وهي أمثلة لمدن جميلة وناجحة، أو مناسبة بيئياً ومؤثرة بصرياً، وبالتالي جمالياً، هذا ما يشجع على الافتراض أن مدن في الأماكن المرتفعة تظل ذات ميزات بيئية وحضرية وجمالية متقدمة، إنها مدن عالية طبوغرافيا وربما ينتج هذا العلو معادلها النفسي والمعنوي العالي. لذلك سنطلق عليها صفة (المدن العالية).

أما المدن التي شيدت في أماكن منخفضة فهي مدن مكتظة، تجتمع فيها المياه والأتربة، وتتراجع على الأرجح في نموها الحضري، لكن العديد من المدن المنخفضة، أو التي شيدت في الأراضي المنخفضة على ضفاف الأنهر قد برزت ونجحت عبر الزمن المديد، مثل: (لندن، باريس، برلين، القاهرة، بغداد والموصل) كأمثلة، لكن هذه المدن لو كانت طبوغرافيتها مرتفعة في المكان نفسه، أي مستقرة فوق الهضاب العالية أو على سفوح الجبال لكانت أكثر سحراً وجمالاً.

في هذا الصدد من بين المدن القليلة التي سحرتني هي مدينة دهوك، المدينة التي تقع قرب الحدود الدولية لثلاث دول هي (العراق، تركيا، سوريا)، وعلى الرغم من أنني ولدت وعشت شبابي في قرية تقع غرب دهوك بمسافة أقل من مئة كيلومتر، لكنني لم أزور وأشاهد دهوك إلا بعد أن تجاوزت الأربعين من عمري بسبب صلابة الحدود وسياسات تشتيت وتقسيم المجتمعات الكوردية، لا أذكر بالضبط متى زرتها، ويبدو أن الزيارة الأولى كانت في نهاية عام 2005، لقد سحرتني من النظرة الأولى وأحببتها من أول لقاء، تماماً كما في حالة الوقوع في حب البشر من أول نظرة. أحببت طبوغرافيتها الواقعة بين جبلين، وتسلقها لسفح الجبل الشمالي بشكل رئيس، تدرجها بمنازلها المتجهة نحو الجنوب، وتسلق المباني سفح الجبل كسائر القرى والبلدات الكوردستانية القديمة، فهي مدينة تتسلق سفح جبلين، على مسار طريقين يمتدان من الشرق نحو الغرب، تتواصل شمالاً مع مضيق جبلي، الذي ينفتح بدوره على بحيرة سد. تكثر في محيط مدينة دهوك الشجيرات الجبلية، تمتد لمساحات واسعة لتشكل امتدادات ومساحات خضراء للمدينة.

كانت دهوك مدينة منسية، بسيطة نظيفة، تغسل وجهها الأمطار الموسمية بسهولة، وتنتعش رائحتها بعد مرور أول غيمة، دهوك مدينة تصنف بين المدن المرتفعة، ليست من زاوية طبوغرافية فحسب، بل لكونها من المدن القابلة أن تكون ساحرة وواعدة، فهي مدينة باتت جاذبة للسكان، حيث كانت مجرد قرية صغيرة في القرن الخامس عشر، ثم مركز قضاء صغير لا يتجاوز عدد منازلها 400 مسكن إضافة إلى عشرات الحوانيت في الربع الأول من القرن العشرين. تطورت ونمت كثيراً مطلع القرن الحادي والعشرين، فقد احتضنت المدينة في جوارها أكثر من مائة ألف نازح من كوردستان سوريا، وأكثر من مائة ألف من مناطق العراق المختلفة، إضافة إلى أكثر من مائتي ألف من نازحي منطقة سنجار، وارتبطت هذه المجتمعات (النازحة) في محيطها القريب بفعاليات المدينة، حتى باتت دهوك مدينة مليونية مع ضواحيها، وعلى الرغم من هذا الاكتظاظ المفاجئ ظلت نظيفة وأسعارها رخيصة نسبياً.

بناء على ما سبق نستشف مستقبلها الحضري الواعد، حيث يحق لكل محبي دهوك التساؤل: كيف ستتطور هذه المدينة؟ وكيف لها أن تشكل أحد روافع التنمية في إقليم كوردستان وعموم العراق، إذ باتت المدن الصاعدة هي أحد أهم محركات النمو الاقتصادي على الصعيد العالمي.

ليس من السهل الإجابة عن هذا التساؤل البسيط، ففي عالمنا المعاصر، وفي عصرنا الذي يوصف بعصر المدن، ليس من السهل أن تشق مدينة ما طريقها للتفوق الاقتصادي والمجد الحضري فالثقافي، فبحسب علوم العمران وسوسيولوجيا المدن، لابد أن تمتلك المدينة وظيفة رئيسية، وتقوم بدور ريادي جاذب في حقل يتميز به، إذ ينبغي أن تمتلك المدينة محركات وحوافز لتفجير طاقاتها الداخلية، حيث تظل بحاجة إلى قدرات وإمكانات إضافية تتجاوز طاقة وظائفها الحضرية المعتادة: كالإدارة والتجارة وتنظيم السلطة المحلية والتعليم وتقديم الخدمات الطبية، ولكي ترتفع أي مدينة في درجة تميزها، يجب أن تخترق المستوى المعتاد للحواضر في الجوار القريب، اذ لابد للمدينة المرشحة للتفوق والتميز أن تمتلك القدرة والقابلية التنافسية على التقدم والنمو في عالم المدن المعاصر، ولكي تكتسب صفة فريدة وجاذبية حضرية كبيرة لابد من أن تجازف بما لديها من رأس مال حضري وجغرافي وحتى اجتماعي وثقافي.

نعود ونتساءل كيف سيكتشف أصحاب القرار في حكومة دهوك المحلية هذه الطاقات وجوانب الترجيح والتفوق لمدينتهم؟ في البدء لا بد من التفكير والحلم بمدينة متميزة، لابد من التخطيط مطولاً، على مبدأ عمل المهندسين البارعين (قس عشر مرات ثم قم بعملية القص والتصميم أخيراً). هل ثمة خبرات تخطيطية؟ راعت خصوصية دهوك الجبلية؟ وامتدادها الطولي بين جبلين؟ لا أعتقد! وإن وجدت فهي مغيبة؟ فقد تحكمت بمسار تطورها الأقدار، وما زراعة المباني البرجية في السنوات الأخيرة بطريقة شبه عشوائية على صفحة المدينة سوى أحد نتائج هذا التفكير والقرارات غير المدروسة، لا أشك أن محبي دهوك هم بالآلاف، ولابد من ترجمة عملية لهذا الحب، بخطوة واحدة، أو بمقترح بسيط، ولن أستطيع التملص من واجبي بهذا الصدد، فقد أهملت وتراخيت في واجبي العلمي، ومازلت من ضمن جموع المقصرين، فلم نقدم أي مقترح نظري سابقاً، ولم نقم بأي خطة عملية للرقي بهيكل دهوك الحضري، ولا في التخطيط لمستقبلها التنموي. وتم ترك تطور المدينة لمتطلبات سوق العقارات ومبادرات المهنيين وتجار العقارات، وبالتالي باتت فريسة للتطور العشوائي غير المدروس.

وكأحد نتائج هذا النمو العشوائي تعرضت مدينة دهوك لكارثتين في الأيام الأخيرة، أولاً لسيول جارفة في شهر آذار 2024، وبعد الفيضان بأيام تعرضت لحريق كبير اتلف محتويات حوالي 160 محل في الأول من نيسان ضمن سوق (جلي). تفرض الحادثتان ضرورة إعادة قراءة مستقبل المشهد الحضري لمدينة دهوك من جديد، وإعادة تدقيق حسابات توفير البيئة الحضرية الآمنة أولاً، قبل التفكير في تأمين أرضية الانطلاقة نحو آفاق حضرية تنموية واعدة، والموضوعان مترابطان ومتلازمان.

 

 

 

روداو

Top