• Thursday, 21 November 2024
logo

من زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الدين

من زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الدين

د.عرفات كرم ستوني

مسؤول شؤون العراق في مقر بارزاني

      سأبذل قصارى جهدي لكي يكون مقالي وجيزاً، ولو أردت التفصيل لاحتجت إلى مجلد كبير، لأن قراء اليوم يحبون الإيجاز، أعتقد أن الحديث عن هذه الإشكالية بحاجة إلى تفكير عميق وعمق فكري، وصراحة واضحة، وقراءة جديدة، لأن الموضوع له صلة بأهم مفردتين من مفردات حياة الشعوب والأمم، ألا وهما الدين والخُلُق، كثرتْ التعريفات للدين والخُلُق، فثمة من عرفهما تعريفاً سياسياً، وآخر اجتماعياً وبعضهم فسرهما تفسيراً رمزياً، بحيث ضاع التعريف الحقيقي لهما بين تلك التعريفات الكثيرة المتباينة، ولا يمكن فهمهما دون طرح تعريفنا الذي اخترناه بعد دراسة وتجربة وبحث، ومما يجدر ذكره هنا أن التعريف الذي اخترناه نابع من الحالة الواقعية التي نعيشها، فلسنا نعيش في زمن الوحي حتى يخبرنا بكل صغيرة وجزئية تتعلق بحياتنا، فالواقع مختلف ولا بد من التعامل مع هذا الواقع بصورة مختلفة، وبهذه الطريقة يمكننا تحقيق مقاصد الدين وتحقيق فلسفته، أما التذرع بالتعريفات الكلاسيكية فإنه لا يمكن تحقيق ما أصبو إليه، وخاصة أن ظهور الإسلام السياسي شوه الدين تشويهاً كبيراً، وبات الناس يعانون من فهم حقيقة الدين،  فالذي أراه أن (الدين: علاقة خفية بينك وبين ربك، والخُلُق علاقة علنية بينك وبين الناس) فالله ليس بحاجة إلى إخباره بتديننا، ولا بإعلامه بتقوانا، فهو يعلم ما تكنه صدرونا، وما تخفيه قلوبنا، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو لا يقبل من الأعمال إلا أخلصها وما كانت له وحده، دون نفاق ولا رياء، بل مجرد وجود رياء في أي عمل نقوم به لله، يرفضه لا يقبله منا، ولهذا يحب التقوى الخفية والتدين الخفي، ويحب أن نتصدق بيميننا بحيث لا تعلم بذلك شمالنا، ويحب أن نحج بيته الحرام دون أن نضع عمامة على رأسنا لكي نخبر الناس أننا حججنا بيته كما يفعل ذلك بعض الحجاج، ولا يحب أن نضع علامة سوداء على جبيننا لكي يعلم الناس بكثرة سجودنا، ولا بوضع علامات بارزة تظهر تديننا، كل هذا مناف للتدين الصحيح الذي يريده الله منك، بل هو رياء واضح، إن التدين هو سلامة قلوبنا ونقاء أرواحنا وجمال أفئدتنا، قال تعالى(يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). وقال النبي (ص) (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب)، وقال أيضا(إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم). فالمتدين الحقيقي هو الذي يملك قلبا خالياً من الحسد والبخل والحقد والضغينة والكبر والعُجْب والرياء والكذب والنفاق والفساد والخداع والغش والخبث والنميمة والغيبة والكراهية، فكم رأينا من أناس ظاهرهم التدين الشكلي، وباطنهم التدني الخُلُقي، ولهذا قال عمر بن الخطاب( لا تنظروا إلى صيام أحد ولا صلاته، ولكن انظروا إلى صدق حديثه إذا حدث، وأمانته إذا أؤتمن). وقال إبراهيم بن أدهم (أطب مطعمك، ولا عليك أن تقوم الليل وتصوم النهار)، بل إن الفيلسوف الصوفي الكبير ابن عربي الأندلسي قد حصر الدين كُلَّهُ في خُلُق واحد، وهو الاحترام حيث قال(لن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقر جميع الخلائق). وهذا الاحترام لا يشمل المؤمنين فقط، بل جميع الناس، لأن أساس الحياة السليمة تكمن في ترسيخ الاحترام بين البشر، في كل بيت وفي كل أسرة وفي كل مجتمع وفي كل دولة، بل إن الاحترام أساس العلاقات بين الدول والشعوب، ولولا ذلك لقامت الحروب وانتهكت القوانين وساءت العلاقات.

     يرى ابن قيم الجوزية أن الرجل عندما يكون خُلُقه أفضل من تدينه فهو أفضل حالا ممن تدينه أفضل من خُلُقه، وهنا نتحدث عن المؤمنين، لأن حسن الخُلُق دليل على صحة التدين وسلامته، وسوء الخُلُق أمارة على خلل في تدينه إن لم يكن تدينه فاسداً أو زائفاً أو نفاقاً، قال ابن قيم الجوزية (الدين كُلُه خُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق، زاد عليك في الدين). وهنا اعتمد ابن قيم الجوزية حديث النبي(ص) عندما قال(إن الرجل ليدرك بحسن خُلُقه درجات قائم بالليل وصائم بالنهار)،  ولا ريب أن أفضل هؤلاء من تساوى خُلُقُه وتدينه، كما كان رسول الله(ص) حيث كان أفضل الناس خُلُقاً، وأكثرهم تديناً وتقوى، وسار على هذا النهج صحابته، وفيما يخص مجتمعاتنا فإن البشر كلهم عيال الله بالمعنى المجازي وليس الحقيقي، وأفضلهم من يحسن التعامل مع عياله أي مع خَلْقَه بحسن خُلُقه، فالمتدين ذو الخُلُق السيئ يضر بعيال الله، لكونه يملك علاقة سيئة مع الناس، بينما ذو الخُلُق الحسن وإن لم يكن متدينا فهو لا يضر الناس، بل هو أحب إليهم من الأول، ومن ساء خُلُقُه مع الناس ساء خُلُقُه مع ربّه، قال النبي(ص) (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس)، وعندما قال أبو بكر الصديق كلمة لبعض المهاجرين فيها عتب، قال له النبي(ص)(لئن كنت أغضبتهم فقد أغضبتَ ربك) ولقد علق الله تعالى شكره بشكر الناس أولا، حيث قال النبي(ص) ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس) لأن الناس عيال الله، فشكرهم من شكر الله تعالى، وأذيتهم من أذية الله، ولكي نقرب الفكرة أكثر فصاحب الأسرة يفرح بمن يشكر أفراد أسرته، ويغضب بمن يؤذي أفراد أسرته، ولله المثل الأعلى، وفيما يخص تدينه فهو عائد إلى ربه يوم القيامة، فهو مالك يوم الدين.

     والمجتمعات تقوم ركائزها على الأخلاق الحسنة، وعندما أثنى الله على نبيه(ص) قال( وإنك لعلى خُلُق عظيم) ولم يقل وإنك لذو تدين عظيم وتقوى عظيمة، ولقد حصر النبي رسالته في كلمة واحدة عندما قال( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، لأن تدينك لنفسك، وأخلاقك للناس، والمؤسف حقا أن تديننا أصبح للناس، وأخلاقنا أصبحت لأنفسنا، ولهذا يعاني العالم الإسلامي كله من مشكلة الأخلاق، يقول محمد عبده العالم المصري(وجدت في أوربا مسلمين بلا إسلام، بينما وجدت في بلادي إسلاما بلا مسلمين).

       هذه هي قناعتي لفهم هذه العلاقة بين الدين والخُلُق، ومن الضروري أن نشير إلى فهم الإسلام السياسي لهذه العلاقة، حيث نرى أن الإسلام السياسي جعل الدين علاقة علنية جهرية حصرية بينهم وبين الله، ثم عن طريقهم وحدهم لا شريك لهم يبنون علاقة هامشية بينك وبين الله، لأنهم يصورون أنفسهم وكلاء الله في الأرض وخلفائه، والموقعون باسمه، فهمها كنت لا تستطيع أن تبني علاقة مباشرة بينك وبين الله، بل لا بد أن يكون ذلك كله عن طريقهم، فهم سيعلمونك كيف تصلي وتصوم وتحج وتزكي وتتصدق وتتعامل وتتصرف وتأكل وتشرب وتلبس، وفيما يخص النساء هم يعلمونها كيف تلبس الحجاب وكيف تخرج وكيف تتزوج ومن تتزوج، وكيف تذهب إلى المسجد ومتى تذهب ولمن تستمع وماذا تشاهد ومن تشاهد في القنوات والمحاضرات، فهي عبودية حزيبة ضيقة، تتنافى مع العبودية الطبيعية الاختيارية التي يمارسها المؤمنون بكامل حرياتهم، ولهذا مهما كنت متديناً وتقياً فهم لا يعترفون بتدينك، ومهما كنت عالما فهم لا يسمحون لمن ينتمي إليهم بالاستماع إلى محاضراتك، والمشاركة في ندواتك، وقراءة كتبك ومقالاتك، لأنك لست منتمياً إليهم، فكل شيء لا بد أن يمر عن طريقهم، لأنهم – حسب زعمهم- الفرقة الناجية الموعودة وهي الجماعة الأم. وهنا أتذكر ما قاله محمد عابد الجابري( من يتدين لوحده فهو يمارس الدين، ومن ينادي الآخرين ليتدينوا فهو يمارس السياسة)، وقد تفشت في كوردستان ظاهرة غريبة، وهي طارئة على مجتمعنا من قبل الإسلاميين، حيث كثر الدعاة من الرجال والنساء وهم يلقون المحاضرات في القاعات والساحات وعلى القنوات، ويطلقون الفتاوى المعلبة، وهم ليسوا متضلعين في العلوم الدينية، بل أكثرهم خريجو كليات غير دينية،  ولعل أبرزها الزي الموحد للحجاب للفتيات، لست ضد الحجاب فأنا من عائلة متدينة، لكن الدعوة إلى الحجاب بهذه الصورة ليس تديناً، بل استغلال للدين لمآرب سياسية، وهذا يذكرني بما كان يقوم به الإخوان المسلمون في الإسماعيلية سنة 1928، حيث فشلوا في تغيير طبيعة المجتمع المصري المنفتح، وسيفشل هؤلاء الإسلاميون بتغيير طبيعة المجتمع الكوردستاني، لأنه مجتمع محب للدين، وأين كنتم عندما كان علماءنا الكبار يعلموننا ديننا، وكان شيوخنا وشبابنا ونساءنا يمارسون عباداتهم بصورة طبيعية لا تكلف فيها ولا تصنع ولا رياء ولا نفاق ولا سياسة،  وكأنكم بأسلوبكم هذا تخرجون الناس من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإسلام، هذه الأساليب الإخوانية لن تنجح في كوردستان، ولولا الإخوان المسلمون لكان المسلمون إخوانا، ولولا إسلاميو كوردستان لكان الناس أكثر تديناً، ولكن بسبب أساليبهم الإعلامية المغرضة، وخطابهم الرافض للآخر، وعقليتهم الممتلئة حقداً وكراهبة وضغينة للآخر، وتفكيرهم المناقض للإنتماء الوطني، أصبح الناس يدركون حقيقتهم، في كونهم يستغلون الدين لمآرب سياسية.

 

 

 

Top