الأساس الفلكي للعالم الحديث
في يوم 12 يوليو (تموز) المقبل من المقرر أن يبدأ خليفة «هابل»، تليسكوب جيمس ويب الفضائي، في بعث أول صور علمية، بعد تصميم وتحضير دام عقوداً وفترة تجريبية استمرت أكثر من نصف عام. المشروع له أهداف علمية عدة، من بينها البحث عن كواكب قابلة لاستضافة الحياة حول نجوم غير الشمس، والكشف عن أول نجوم ومجرات في الكون. أهداف مثيرة ولافتة للنظر لا شك، لكنها تبدو بعيدة عن اهتماماتنا اليومية. تبدو كذلك خاصة في عالمنا العربي، حيث يغيب الوعي العام بالصلة الوثيقة بين طفرات العلوم الأساسية وتطورات العالم الاجتماعي. وهذا ما أريد أن أتناوله هنا.
علم الفلك كان في أساس التحول التاريخي الذي أتى بالحضارة الحديثة. هذه عبارة قد تبدو غريبة على البعض، حتى إن كانوا قد سمعوا عن إسهامات أمثال كوبرنيكوس وجاليليو وكيبلر ونيوتن. لذلك؛ تبدو القفزات الكبيرة التي نتابعها عبر المحيطات، في علوم الفلك والعلوم الأساسية عامة، نوعاً من الطرائف؛ من إنجازات عالم مرفه، سمحت له ظروف التقدم بالاهتمام بمثل هذه الكماليات، لكن ليس لها تداعيات مهمة على حياتنا نحن. ربما أقلية فقط من المتابعين ستتأمل احتمال أن التقدم جاء، على العكس، أصلاً نتيجة الاهتمام بالمسائل المعرفية الأساسية، وبداية من ظروف أصعب من التي يعيشها العالم العربي حالياً؛ «كيبلر» مثلاً كان يعيش ويعمل في ظل بؤس وهول حرب الثلاثين سنة، ووالدته قد تم خطفها في وسط الليل لمحاكمتها كساحرة.
ثم انطلق الأفق الفكري مع اتساع الكون المادي، وتغير واقع الإنسان الغربي معه. لآلاف السنين كان التصور السائد لدى الإنسان أنه في مركز الكون، معنوياً وجغرافياً. ثم انهار التصور الراسخ، ومع انهياره اندلعت الثورة العلمية، ومعها الطفرات المعرفية المتتالية. بالنسبة لمكاننا في الكون المادي، اتضح أولاً أن الشمس هي التي في مركز المجموعة الشمسية؛ ثم إن النجوم الأخرى التي نرصدها عبارة عن شموس مثل شمسنا؛ وأننا نسكن ضواحي مجرة بها مئات آلاف الملايين من الشموس؛ وأن مجرتنا ذاتها ليست إلا واحدة من عدد مهول؛ في كون يفوق عدد المجرات فيه تعداد كل من مشى على الأرض من بشر منذ أن تطور الإنسان الحديث عليها من نحو مائة ألف عام.
سيبحث ويب عن أصل تلك المجرات في بدايات الكون؛ لاختبار تصوراتنا النظرية الحالية عنه، وذلك عن طريق رصد دقيق وحساس لأشعة ضوء أخذ ما يقرب من 14 مليار عام للوصول إلينا. هكذا سيتسع مرة أخرى الكون المرصود، وستنفتح آفاق تصوراتنا لمكاننا فيه.
العرض سيكون مبهراً، لكنه قد يبدو للكثيرين في عالمنا العربي وكأنه جزء من فيلم يصعب متابعة تفاصيله؛ لأننا بدأناه من منتصفه. سننبهر بصور الكون الأولى، وربما بالمجتمعات التي أنتجتها، لكن ربما القليل منا فقط سيجدها فرصة لتأمل أساسيات المشروع الحضاري التي أتت في إطاره هذه الصور، والذي يربط بينها وبين الأساس المعرفي والتنظيمي للمجتمعات التي أنتجتها.
الواقع أن صور جيمس ويب تمثل آخر الطفرات في مشوار فكري ارتبط فيه التطور العلمي جذرياً بتحولات اجتماعية وسياسية مهمة؛ مثلاً، جون لوك (رائد للفكر الليبرالي الأنجلوساكسوني، الذي أثر بعمق على مؤسسي الولايات المتحدة ونظامها السياسي) كان مقرباً لنيوتن، وتأثر فكره كثيراً بإنجازات صديقه العلمية. بالفعل، من الصعب عدم ملاحظة الخط الواصل بين آليات المنظومة الليبرالية التعددية، التي انبثقت عن فلسفة «لوك» السياسية، وبين الطريقة العلمية؛ في كونها منظومة مبنية على إصلاح الأخطاء، باتباع مبدأ أن لا فرد أو فكرة فوق المساءلة والتفنيد.
ونجاحات نيوتن في فك شفرات الكون الطبيعي ساعدت كذلك على تبلور فكرة أن الإنسان، المتوج بعقل قادر على فك أسرار الكون، يجب أن تصان آدميته الممثلة في استقلاليته الكاملة في الاختيار الحر، فلا يمكن فرض عليه أي شيء إلا بالإقناع. هكذا تكون أسس النظام العقلاني ضامنة للحرية؛ لأن في غيابها تكون السيطرة للأكثر قدرة على البطش والإخضاع والقمع، أما في ظلها فتكون السيادة للحجة والأطروحة الأقوى، مع تفكيك القيود على النقد والابتكار التي تفرضها المجتمعات التقليدية.
هذه الأطروحات الأخلاقية ذات التداعيات السياسية المهمة ارتبطت بالذات باسم الفيلسوف إيمانويل كانط، وهو أستاذ الفيزياء الفلكية الذي ابتكر (على أساس قوانين نيوتن)، تصوراً لنشأة المجموعة الشمسية. النظرية التي طورها عالم الرياضيات الفرنسي لابلاس، والتي تعدّ حالياً الأنجح أيضاً في تمثيل نشأة المجاميع الشمسية الخارجية، مثل التي سيبحث عنها «ويب». بل كانط كان أيضاً أول من تكهن بوجود مجرات خارجية، مستقلة عن مجرتنا، من النوع الذي سيرصده ويب. وكفيلسوف وعالم فلك لخص رؤيته بالتعبير عن انبهاره بشيئين: «السماء المرصعة بالنجوم من فَوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي».
لا أريد بالطبع أن أعطي الانطباع أن كل ذلك سيطرأ في ذهن الفرد العادي في الغرب الصناعي عند متابعة النتائج التي ستتدفق من تليسكوب جيمس ويب قريباً. لكن الخلفية الفكرية والتاريخية العامة ستكون متواجدة ضمنياً في باطن العقل لدى الكثيرين. لأن أساسياتها تخلل النظام التعليمي والمجال العام. بل إن أحداث إطلاق مشاريع عملاقة ومكلفة مثل جيمس ويب يمكن اعتبارها ضمن طقوس تأكيد وإحياء وتنشيط المعتقدات الاجتماعية والأسس الحضارية المتعلقة بتلك الخلفية - على عكس اعتبارها طرائف أو كماليات.
كذلك، لا يفقه معظم الناس في الغرب تفاصيل النسبية العامة لأينشتاين، التي تخطت ميكانيكا نيوتن في شرح حركة الكواكب والمجرات والكون ككل. ولن يكونوا على دراية بأن أجهزة الملاحة (جي بي إس) لا يمكن أن تعمل بدقة دون الأخذ في الاعتبار ظاهرة انحناء الفضاء والزمن (كما تتنبأ النسبية العامة) عند حساب المسافة بين القمر الصناعي والجهاز. لكن الكثير منهم سيكون على دراية عامة بالعلاقة الوثيقة بين التطور في فك شفرات العالم الطبيعي واستخدام ما تم اكتشافه هكذا لتحسين وتطوير حياتنا اليومية.
في المقابل، فإن الأساس الذي يربط بين تطور تصوراتنا للعالم ومكانناً فيه من ناحية والتقدم التقني من ناحية أخرى ليس واضحاً بشكل كافٍ في عالمنا العربي. على العكس، ستجد نزعة قوية ترمي إلى الفصل بين التقدم التكنولوجي والأساس الفكري لمنهج المعرفة العلمية، بدعوى أنه يجسد منهجاً مادياً يسوده الفقر الأخلاقي والافلاس الروحاني.
لكن هذا اللبس كان قد تطرق إليه كانط أيضاً، الذي فصل بين المعرفة العلمية والأخرى الأخلاقية، المرتبطة بالجانب المعنوي للوجود. فالعلم التحليلي لا يكشف بالضرورة عن «الشيء في ذاته»، إنما عن علاقات سببية بين ما نرصده من ظواهر، في سبيل ابتكار منظومة منطقية تحاكي الوقع المرصود بنجاح. هكذا، فإن أجهزة مثل جيمس ويب تبحث عن ظروف نشأة وكيفية تطور الكون المادي، وليس عن معنى الوجود. ولذلك؛ لا تتطرق، ولا يمكن أن تتطرق، لأسئلة مثل: لماذا يوجد أي شيء من أساسه وليس فقط العدم. ولذلك؛ لا يشكل السعي العلمي بديلاً مكتملاً لمنظومات أخرى تقدم إجابات على مثل هذه الأسئلة.
وبالقدر الذي يلمس المشروع العلمي عالم الأخلاقيات؛ فهو يؤسس لاحترام حقائق الواقع المرصود، والبحث الصادق عنها في سيل امتحان تصوراتنا عن العالم الملموس، وقبول النتيجة حتى أن دمرت مسلمات مريحة طالما تشبثنا بها. من هذا المنطلق يولد الكون المادي والفكري الأوسع، وهو الإطار المعرفي الذي حرك عالم الإنسان منذ اكتشافات كوبرنيكوس وكيبلر وجاليليو ونيوتن. وفي إطاره يمكن إدراك المعنى الحضاري الأعمق لمشاريع مثل جيمس ويب؛ كأداة في منهج معرفي يحركه البحث عن معلومات تفسح آفاقاً فكرية جديدة، وتدفع العالم الاجتماعي والاقتصادي نحو تحول ديناميكي مستمر.
الشرق الاوسط