كركوك ..التوغل والتغول
معد فياض
ايضاح أولي: أوغَلَ من تغول، حسب مجمع المعاني الجامع "أوغل في أقاصي البلاد: تَغَلْغَلَ فِيهَا، ذَهَبَ فِيهَا وَبَالَغَ وَأَبْعَدَ"، و"أوْغَلَ فِي الكَلاَمِ : بَالَغَ أبْعَدَ مَا يُمْكِنُ أوْغَلَ فِي الطُّغْيَانِ"، ويشرح التغول، "تغوَلت الأرض بفلان: ظلَ فيها وهلك"، وأيضاً "غال فلاناً غولاً وغيلاً: أهلكه، أصابه بشر من حيث لا يدري".
منذ أن وعينا على الدنيا عرفنا بأن كركوك هي محافظة أو مدينة كوردية، وسابقاً كان يطلق على المناطق الكوردية التي هي اليوم كوردستان العراق، تسمية (شمال العراق) وبضمنها كركوك.
وفي اعتراف صريح بكوردستانية مدينة كركوك، يقول الدكتور عدنان الباجه جي، وهو شخصية أكاديمية مرموقة عالمياً، وآراؤه موثوق بها للغاية، وكان ممثل العراق في الأمم المتحدة لأكثر من نصف قرن ووزير الخارجية في منتصف الستينيات: "عندما كان والدي (مزاحم الباجه جي) وزيراً للداخلية في حكومة نوري سعيد الأولى، عام 1933، زار كوردستان، كانت تسمى شمال العراق، وقد أخذني معه وكان عمري عشر سنوات، حيث زار جميع المدن الكوردية، كركوك (نلاحظ أنه يذكر هنا مناطق شمال العراق باعتبارها كوردستان، ويعتبر كركوك مدينة كوردية ضمن أراضي كوردستان منذ ذلك التاريخ) والسليمانية وأربيل ودهوك وزاخو والعمادية وراوندوز".
وحسب الموسوعة البريطانية والعربية، فإن "كركوك الحالية تقع على أطلال المدينة الآشورية القديمة أررابخا (عرفة) التي يقدر عمرها بحوالي 5000 سنة. تعرف الموسوعة مدينة كركوك "هي مدينة في العراق، وهي عاصمة محافظة كركوك. تقع المدينة على بعد 236 كيلومتراً شمال العاصمة بغداد، 83 كم جنوب أربيل، 149 كم جنوب شرق الموصل، 97 كم غرب السليمانية، و116 كم شمال شرق تكريت. ومعظم سكان المدينة من الأكراد، لكن يوجد أيضاً سكان من التركمان، والعرب، والآشوريين، والأرمن".
واستناداً إلى معلومات الموسوعة العربية فإن "المنطقة المحيطة بمدينة كركوك، عرفت باسم باجرمي، وعلى مر التاريخ حاول الفاتحون لكوردستان تدمير الإمارات الكورديّة القائمة الواحدة تلو الأخرى، ويعتبر وقت احتلال الصفويين لكردستان في عهد الشاه إسماعيل هو النقطة الزمنية التي بدأ فيها الاستيطان القسري للتركمان في المنطقة. وقد استعادها، بما في ذلك منطقتي أربيل وكركوك، سعيد بك شاه علي، أمير إمارة سوران".
وأصبحت كردستان ساحة معركة لفترة طويلة بين الصفويين الشيعة، والعثمانيين السنة. خاصة خلال فترات حكم شاه طهماسب، وشاه عباس، وشاه طهماسب قولي خان (نادر شاه) والسلاطين العثمانيين سليمان القانوني ومراد الرابع، وتسبب موقع كركوك الاستراتيجي في تغييرها عدة مرات خلال هذه الحروب"، وفيما بعد، وحتى اليوم تحول غناها بآبار النفط نقمة على المدينة وأهلها بدل أن يكون نعمة لإعمارها وازدهارها.
وفي التاريخ القريب، تطرق شمس الدين سامي فراشري (1850 - 1904) وهو كاتب مسرحي وصحفي وفيلسوف ولغوي ألباني عثماني، كان يتحدث اللغات اليونانية والرومانية والفرنسية والإيطالية والتركية والعربية والفارسية، اشتهر بمعجمه، "قاموس فرنسوي" الفرنسي ـ التركي، والتركي ـ الفرنسي، له أيضاً "قاموس الأعلام" في ستة مجلدات، ثم "قاموس تركي" في جزءين، إلى كركوك باسمها الصريح في المجلد الخامس من "قاموس الأعلام" وتحديداً في الصفحة 3846، وكتب عن تاريخ المدينة: "تقع كركوك إلى الجنوب الشرقي من ولاية الموصل في كردستان ويبلغ عدد سكانها 30 ألف نسمة". ويصف فراشري كيف كانت "كركوك تضم في ذلك الوقت قلعة و36 مسجداً وسبع مدارس و15 تكية وحجرة و1282 محلاً وثمانية حمامات". واستشهد الكاتب كذلك بمعالم كركوك التي ما زالت حاضرة إلى الآن.
وأكد فراشري، الذي كان شاهداً على العصر وقتئذ، أن "نسبة الكرد في تلك المدينة هي الأعلى بين السكان التي لا يزال يصفها الكرد بأرض الأجداد". وجاء في قاموس الأعلام الموسوعي "يشكل الكرد ثلاثة أرباع أهالي كركوك والباقي هم ترك وعرب و760 يهودياً و460 كلدانياً".
وأخيراً نستند إلى أكثر الاحصائيات الموثوقة في الدولة العراقية (إحصاء عام 1957) والذي ما زالت السجلات الرسمية تعتبره المرجعية التي لا شك بها في المعلومات السكانية في العراق، حيث أكد هذا الاحصاء بأن عدد نفوس الكورد في كركوك هو 187,593 نسمة، بينما بلغ عدد نفوس االعرب وقتذاك 109,620نسمة، التركمان 83,371 نسمة، السريان 1,605 نسمة، اليهود 123 نسمة، مكونات أخرى 6,545 نسمة، وبذلك يكون مجموع سكان كركوك وقتذاك 388,829 نسمة. الا أن حملات التعريب والتغيير الديموغرافي الذي مارسته الحكومات العراقية منذ عام 1977، والتي بموجبها ضمت الحكومة العراقية ناحية الزاب والمناطق العربية القريبة من محافظة نينوى وصلاح الدين إلى محافظة كركوك أدت إلى زيادة أعداد العرب في محافظة كركوك، بينما ضمت المناطق الكوردية من محافظة كركوك إلى محافظة السليمانية ومحافظة أربيل وألحقت منطقة (سليمان بيك، ينكجة، الطوز) إلى محافظة صلاح الدين، مع تهجير عشرات الآلاف من العوائل الكوردية ونقل مئات الآلاف من العرب من مناطق جنوب ووسط العراق مع امتيازات مالية ومنح قطع أراضي لهم، قلل كثيراً نسبة السكان الكورد الاصليين مقابل ارتفاع نسبة السكان العرب الوافدين إلى المحافظة التي فقدت حتى اسمها التأريخي وحملت اسماً عربياً باهتاً للغاية (التأميم)، حيث بات العرب اليوم يشكلون ما نسبته 72% من سكان محافظة كركوك، وينتشرون في قضاء الحويجة الذي كان يضم غالبية كوردية، و قضاء داقوق موطن الكورد الكاكائيين وقضاء دبس، وناحية الملتقى، وقسم منهم داخل مدينة كركوك وبسبب هذه التغييرات الديموغرافية القسرية صار الكورد، قبل 2003، يشكلون ما نسبته 21% من سكان المحافظة ويتواجد اغلبهم في مدينة كركوك هذا ما نطلق عليه (التوغل)، التوغل العربي القسري في محافظة كوردستانية تماماً حسب كل المصادر التاريخية القديمة والحديثة، كما ورد أعلاه.
وتعود عمليات تعريب مدينة كركوك إلى بدايات تأسيس الدولة العراقية، حيث يؤكد الباحث الدكتور محمد إحسان في كتابه الأكاديمي المهم "كركوك والمناطق المتنازع عليها في المنظور الدستوري العراقي"، ان "عمليات تغيير ديموغرافي مبرمجة لتغيير نسبة الكورد في المحافظات الكوردية نفذتها الحكومات المركزية المتعاقبة في بغداد منذ قيام الدولة العراقية عام 1921.
لا نريد هنا ان نبرهن حقائق تاريخية وجغرافية واجتماعية وثقافية وسياسية، ولا ننطلق من أهداف عنصرية، بل ندرجها لأغراض التذكير والتوثيق لدرء تشويه الحقائق الذي يمارسه العرب والتركمان في محافظة كركوك بصورة عامة وفي مركزها بصورة خاصة، ولو تعمقنا قليلاً في تاريخ وجود العرب في كركوك لاكتشفنا ان عمر هذا التواجد لا يتجاوز الثمانية عقود عندما حلوا في الحويجة كدخلاء وليسوا اصلاء، وقبلهم التركمان الذين جاءوا من وراء حدود العراق.
لقد وافقت القيادات الكوردية على تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي، وعملت على تطبيقه بمهنية عالية، وتعاونت مع الحكومات المتعاقبة من اجل إنهاء ملف المناطق المتنازع عليها حسب الاتفاقات والمواد الدستورية، لكن رؤساء الحكومات الاتحادية كانوا يقفون ضد تطبيق هذه المادة، والاكثر خطورة من ذلك هو ان حيدر العبادي، رئيس الوزراء الاسبق، شن هجوماً عسكرياً لاحتلال كركوك بعيداً عن الاتفاقات بين حكومتي بغداد وأربيل، وتسبب بمقتل العشرات من مقاتلي البشمركة في 16 أكتوبر/ تشرين الاول عام 2017، وذهب إلى ابعد من هذا عندما شوه عن عمد الحقائق التاريخية، عندما برر فعلته النكراء هذه بوصف المناطق التي كانت تدافع عنها قوات البيشمركة في محيط كركوك ضد هجمات تنظيم داعش الارهابي، بانها "مناطق محتلة". حيث قال العبادي في مؤتمر صحفي عقده في الثالث من أكتوبر، تشرين الأول 2017 بأنها مناطق محتلة من قبل الإقليم (كوردستان) الذي استولى عليها منذ عام 2003 بشكل تدريجي، مستغلاً انشغال القوات العراقية بمحاربة ما أسماه "الإرهاب"، وهذا ما نعنيه بالـ(تغول).
اليوم والعراق على أعتاب تشكيل حكومة جديدة، تنبثق عن برلمان جديد، يشارك فيه الكورد بقوة، يجب ان يتم فرض شرط تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي وانهاء فصول من معاناة الكورد في كركوك وفي مناطق اخرى بالعراق، وانقاذهم من إرهاب تنظيم داعش، ومن اضطهاد الميلشيات المسلحة التي تتحكم بكركوك وخانقين وغيرها من المناطق الكوردستانية المتنازع عليها.
روداو