• Sunday, 30 June 2024
logo

صناعة السلام مهمة غير مستحيلة

صناعة السلام مهمة غير مستحيلة

كوليت بهنا

أعظم الأفكار التي صاغتها البشرية ضمن أشكال أو نصوص أو حتى التي تبادلتها شفاهة، هي تلك التي ولدت من بيئتها بشروطها الظرفية والمكانية الخاصة، لكنها تمكنت عبر قوة أصالتها من كسر أطر خصوصيتها والتحرر منها لتصلح لجميع الهويات والجغرافيات والأزمنة، كمثل بذرة صالحة تؤتي ثمارها في ترب مختلفة، وهو ما منحها صفة الأفكار الخلاقة العابرة للحدود.

تتطابق هذه الصفة مع الفكرة الآسرة التي حملها الفيلم الأستوني الجورجي الذي حمل اسم (مندرين Tangerines) أو ما يعرف بثمرة اليوسفي أو يوسف أفندي عربياً. وهو فيلم من إنتاج 2013 لمؤلفه ومخرجه زازا أروشادزي، حصد في جولاته العالمية العديد من الجوائز القيمة، ورشح لجائزة أفضل فيلم أجنبي في حفل توزيع جوائز الأوسكار 87، كما تنافس مع الأفلام الخمسة التي رشحت لجائزة غولدن غلوب في دورتها الثانية والسبعين.الفيلم الذي هدف إلى إيصال رسالة تتعلق بالخير الذي يمكن أن يفتح أبواب الغفران والمصالحة وصولاً إلى صنع السلام، لم يحصر معناه بمحدودية الرؤية الهادفة إلى إيقاف حرب أو نزاع بين دول أو جماعات أو أفراد فقط، بل شمل ماتقدم منطلقاً من شرطية الخطوة الشجاعة الأولى، وهي إمكانية صنع سلام النفس الداخلي للفرد أولاً وسط ظروف معقدة، القادر بالتالي على الانعكاس والـتأثير في المحيط المنغمس في العنف والاقتتال.

قدم المخرج قصته البسيطة التي تدور أحداثها خلال حرب أبخازيا 1992-1993، وهي الحرب التي دارت بين القوات الحكومية الجورجية والقوات الانفصالية الأبخازية  قبل وقت قصير من انهيار الاتحاد السوفياتي، ضمن بيئة أكثر بساطة تهيمن فيها الطبيعة الخصبة المهجورة من أهلها الفارين من الحرب، مانحاً الأرض معناها الوجداني والسامي رغم مجازفة التشبث بالبقاء فيها في ظروف غير مستقرة مشابهة.

بطله إيفو الذي فقد ولده في هذه الحرب ورفض مغادرة بيته مستمراً في صنع الصناديق الخشبية التي تساعد جاره في تعبئة المحصول الوفير الذي تطرحه أرض المندرين، لم يتوحش أو يفقد إنسانيته، بل سيبلور الصراع دوره داخله ليواجه مسؤولياته الأخلاقية التي ستلزمه واجب دفن القتلى من الجانبين والتأسف على مقتلهم ووصفهم بأسى شديد بالأولاد كدلالة على عبثية الحرب، وإنقاذ حياة اثنين منهما ورعايتهما كولدين له في بيته. 

الأول مسلم شيشاني مرتزق يقاتل لصالح القوات الأبخازية، والآخر جورجي مسيحي، سيجربان رغم إصابتيهما البالغتين نقل صراعهما إلى داخل بيت مضيفهما إيفو. عند هذه المواجهة التي تكشف خلفيتيهما وبعض تفاصيل الصراع، سيبرز دور لاعب السلام، صاحب الدار، الكريم والعطوف والحازم بشدة، الذي لن يلجم عنفهما ويطهر ما علق في روحيهما من آثام الحرب فقط، بل سيمنحهما بهدوء ودون مباشرة فرصة اكتشاف معنى رونق شبابهما الذي يمكن أن تهدره الحرب مجاناً كضحايا لها، ويحرضهما على تلمس مشاعر إنسانيتهما الغائبة، ليحولهما في نهاية المطاف إلى صديقين يدافع أحدهما عن الآخر.  

لو تم عرض مثل هذا الفيلم بفكرته النبيلة على أصحاب الصراعات-المختلفة في طبيعتها- التي تشهدها العديد من بقاع العالم، هل سيتأثرون ويذرفون الدموع ويعلنون توبتهم ثم يقبّلون شوارب بعضهم البعض ويسعون بجدية وندم إلى المصالحات وصولا إلى السلام؟. بالتأكيد لن يحدث مثل هذا الأمر الخيالي وهم في ذروة الاقتتال والعصبيات المختلفة، وفي الأساس لم يوجه الفيلم خطابه لصنّاع الحرب من الكبار، بل لضحاياها من المقاتلين والمدنيين معاً.
ومايتوقع أن يحدث، أو مايؤمل به من خلال تعميم مثل هذه الأفكار الداعية للسلام وتأثيرها، هو أن يقع في هوى بعض الأفراد السلميين الرافضين للانغماس في الحروب جملة وتفصيلاً، غير المتورطين بالاصطفاف مع أسباب أحد الجانبين القتالية، لكنهم بالوقت ذاته يمتلكون الحس الانساني القادر على التعاطف مع الضحايا، لإعادة حساباتهم وطرح  الأسئلة على أنفسهم من مثل:" ونحن، ماذا فعلنا؟".

سؤال أخلاقي يكمن جوابه في سلوكيات جميع الأفراد، وبشكل خاص شهود الحروب، الذين ربما حرضوا عن دون انتباه أو قصد بكلمة أو بموقف طرفاً ضد الآخر، بمثابة دعوة مفتوحة لتحمل مسؤولياتهم الانسانية وإعادة النظر والبدء في صنع سلامهم الداخلي، ثم الانطلاق منه عبر كل الوسائل المتاحة، لمساعدة الآخرين على صنع السلام الشامل والمستدام. 

صناعة هذا الفيلم بحد ذاته، وعرضه، وتعميمه، ومشاركته، والكتابة عنه، مهام تقع جميعاً ضمن هذا الواجب الأخلاقي والانساني وتخدم مناخات السلام الذي يفرض علينا كبشرية أن نصنعه ونخدمه بشتى الوسائل كلما استطعنا، مهما وقفت العوائق أمام مثل هذه المهمة، ومما بدا صعباً للساعين لأجله، ومهما تعثر أو بدا ضبابياً أو مستحيلاً إلى حين. 

لم يختر المخرج عنواناً لفيلمه من أحد مفردات الحرب التي تحدث عنها أو قومياتها أو طوائفها أو أي من أسماء أبطالها، بل أراد من اختيار اسم "مندرين" التذكير أن ثمار الحمضيات اليانعة والوفيرة التي ظلت معلقة على الأشجار رغم مقتل أصحابها، هي الشاهد الصامت النبيل والأزلي للبيئة التي يدمرها الأفراد بحروبهم وحماقاتهم، وصناع السلام وحدهم من يمكنهم جنيها وإنقاذها، وهو مافعله إيفو ببقائه، رغم رحيل الجميع عن المشهد.  

 

 

باسنيوز

Top