• Monday, 23 December 2024
logo

الحكمة المفقودة (انتقال الصراع في كركوك من القوس الى الزاوية) (2-2)

الحكمة المفقودة (انتقال الصراع في كركوك من القوس الى الزاوية)   (2-2)
طارق كاريزي

الحالة التي يعيشها العراق بعد الزلزال الذي هزّ اركان الدولة وادى الى انهيار النظام تماما عام 2003 هو اعقد من العهد الذي سبقه، والسبب هو ان السنة كأحد ثلاثي المكونات الرئيسة في العراق تم اقصاءه من السلطة بعد ان كان ممسكا بها منذ عام 1920، وبذلك حصل تغيير حاسم في عناصر الصراع وعدم الاستقرار في العراق وابعاده وحيثياته. ان تشتت السنة سياسيا رغم اجماعهم من حيث رفض النتائج السياسية التي افرزتها معادلة اسقاط نظام صدام، الحق اضرارا كبيرة بهم وترك ظلالا معتمة على معادلة الامن والاستقرار في البلد. فبعد ان كانت المعارضة ضد بغداد تنحصر بالكورد، وطيف خفيف من الشيعة لم يرقى الى الصدامات المسلحة الا ما ندر، باتت المعارضة ضد بغداد كحكومة وسلطات، سنيَة بالدرجة الاولى، بداياتها كانت تنظيمات معارضة مسلحة شهدت تبادل في الحضور والادوار الى ان استقر المآل من خلال تجسده على شكل تنظيم الدولة الذي اكتسح مساحات واسعة من شمال ووسط العراق المعروفة بالمنطقة الغربية في اشارة الى جغرافية انتشار الاغلبية السنية. وباتت المعارضة الكوردية اقل حدة من السابق نظرا لتمتع الكورد بسلطات تشريعية وتنفيذية على مساحات واسعة من اقليم كوردستان دون ان تنتهي القضية الكوردية في العراق وترسو على برّ الامان والاستقرار النهائي، بسبب عدم حسم بعض الملفات ذات الصلة المشتركة بين بغداد واربيل، وابرزها مسألة حدود اقليم كوردستان الذي تهربت منه جميع الحكومات العراقية المتعاقبة واتبعت سياسة اللف والدوران بحق الاتفاقيات المبرمة بين بغداد والكورد، وابرز نموذجين لتهرب بغداد من حسم هذا الملف هو تراجع الحكومة العراقية عن تنفيذ اهم بنود اتفاقية 11 آذار عام 1970 وسياسة التسويف التي اتبعتها الحكومات التي تلت سقوط نظام صدام عن تنفيذ البند الدستوري الخاص بمسألة (المناطق المتنازعة عليها)، والتي لا يشك الكورد في كونها جزءا من جغرافية اقليمهم، هذه المناطق التي تشهد الكثير من بؤر التوتر الحادة نتيجة سياسات التطهير العرقي الذي اتبعتها الحكومات العراقية السابقة ضد الكورد وايضا ضد المكونات الكوردستانية الاخرى، وبموازاة ذلك وبالتزامن معها، اتباع سياسة استيطان مبرمجة لصالح العراقيين العرب في مسعى منها للتضيّق على اقليم كوردستان وتقليصه واستقطاع اكبر مساحات ممكنة منه لصالح العراق العربي.
الدولة العراقية (ونقولها بالقلم العريض وهي ايضا بحكم البديهية وبفعل مخرجات اللعبة الديمقراطية التي تم تفعيلها بعد سقوط نظام صدام وخضوع البلد للاحتلال الامريكي) تدار من قبل المكون الشيعي او الاصح من قبل نخب القوى والاحزاب الشيعية، وهذا يعني ان المكونين الآخرين من مكونات الثلاثية العراقية باتت في الهامش.
ونقولها في الهامش لان الدستور الذي اقرّ باجماع شعبي كوردي شيعي، تم رفضه شعبيا من قبل السنة، مع هذا فقد بات هو القانون الاساس للدولة العراقية بعد حقبة البعث، والرفض السني لهذا الدستور كان مرده حالة الصدمة التي اعقبت سقوط نظام صدام وانهيار الدولة والانفعالات التي صاحبتها وردات الفعل العنيفة التي هزّت اركان الدولة واربكت الوسط الشعبي (اجتماعيا وجماهيريا) نتيجة مفرزات الوضع الذي تلا الاحتلال، وبذلك فقد التزم السنة وهم يعيشون فراغا سياسيا بعد 2003 موقف الرفض لكل المشاريع والرؤى السياسية التي ارادت بناء الدولة العراقية وفق اسس جديدة تتجاوز سلبيات الحكم الدكتاتوري السابق. فالبعث قد اكتسح الساحة السنية واخمد فيها كل صوت سنيّ معارض، وانعكس ذلك سلبيا على واقع السنة بعد زوال نظام البعث.
اريد ان اقول بان الدستور الذي اقرّ وتم تمريره بالتعاضد السياسي الشيعي الكوردي وضع السنة في حالة حرجة دفعتهم بكل بقوّة باتجاه اللجوء الى العمل المسلح المعارض، ودفعت جميع التنظيمات المسلحة في المثلث السني (رأسه في الموصل وقاعدته تمتد بين ديالى والانبار) الى رفع شعار مقاومة المحتل وضرب المتعاونين معه، وبذلك فقد دخل البلد دوامة حرب اهلية تركت الكثير من الآثار الكارثية على المستويين المادي والبشري.
وفي كركوك حيث هناك زاوية ذات اغلبية عربية سنية متمثلة بقضاء الحويجة باتجاه جنوب غربي المحافظة، تحولت الى بؤرة امنية قلقة جدا. هذه البؤرة اسوة بكافة مناطق ذات الاغلبية السنيّة اصبحت بمثابة الجحيم بالنسبة للرموز الامنية للدولة وسلطاتها حتى سقوطها عام 2014 بيد تنظيم الدولة (داعش). انهيار التنظيم المتشدد وتلاشي سلطاته في زاوية القلق الامني (قضاء الحويجة) لم ينهي المشكلة، لذا نرى بعد عودة القوات العراقية عام 2017 بعد انسحاب البيشمركة من كركوك واطرافها وتلاشي داعش من الحويجة، لم ترسو الاوضاع الامنية على برّ الامان والاستقرار، لان المعادلة السياسية العراقية بعد عام 2003 لم تتغير وليس من المنتظر تغييرها بعصا سحرية، بل ان الاوضاع السياسية ونظام الدولة العراقية بعد زوال نظام صدام قد ارسى اسسه الدستورية والقانونية بالشكل الذي يجعل احداث تغيير جوهري في النظام السياسي امرا في غاية العسر ولسنين يصعب التكهن بمداها.
ولعل المشكلة الكبرى التي تواجه المجتمع السني وممثليه من النخب السياسية هو عدم جدية الحكومة العراقية من حيث الالتزام بالدستور وتطبيق بنوده، بل ان النظام الجديد الذي اعقب نظام صدام الدكتاتوري، رفع شعارات الديمقراطية لكنه مازال يفتقد اهلية تنفيذ هذه الشعارات، لذلك عندما تطرح مشاريع الفيدرالية على مستوى الاقاليم والمحافظات (مثل اقليم البصرة وديالى وصلاح الدين) وهي مشاريع تتوافق مع الدستور العراقي، تقابل بالرفض من قبل الحكومة العراقية ممثلة برئيس الوزراء والذي بيده السلطات التنفيذية، وبات تقليدا ان مرشحا من المكون الشيعي هو الذي يتولاه. وبذلك بات السنة في زاوية ضيقة من امرهم.


Top