الحكمة المفقودة (انتقال الصراع في كركوك من القوس الى الزاوية) (1-2)
تسعى الحكومة العراقية منذ بسط السيطرة على قضاء الحويجة بعد تلاشي داعش منها عام 2017 الى ارساء الامن والاستقرار في جنوب غرب محافظة كركوك ذات الاغلبية العربية السنية، لكن هذه المحاولات مازالت تصطدم بجدار صلد يهشم الآمال الحكومية ويضع القوات العراقية المرابطة في المنطقة على صفيح ساخن وترقب يتخلله الكثير من الهجمات والصدامات، ويبقى الواقع الامني هشا والتهديدات قائمة الى حين ارساء اسس السلام العادل الذي يلبي طموحات سكان المنطقة، وهذا الحين في ظل انعدام الحكمة السياسية عراقيا، يبقى رهن المجهول.
لو نظرنا الى خارطة محافظة كركوك، لبدى قضاء الحويجة بانه يشغل الزاوية الجنوبية الغربية من المحافظة بين قضائي دوبز وداقوق. هذه الزاوية الجغرافية كانت الاكثر استقرارا ونموّا طوال عقود خلت، بل ومنذ قدوم العشائر العربية اليها في ثلاثينيات القرن الماضي والتي تلقت المزيد من العون والدعم من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة حتى عام 2003، كي تستقر هذه القبائل في المنطقة وتحل محل القرى الكوردية التي تم اخلاء سكانها وطردهم على مراحل، ومن ثم تلعب هذه العشائر العربية القادمة من خارج كركوك دورا حاسما في تغيير التركيبة السكانية للمحافظة لصالح المكون العربي الوافد حديثا الى المنطقة.
ولعل توافق وتداخل مصلحة العشائر العربية التي استقرت في قضاء الحويجة مع سلطات الحكومة العراقية وسياساتها الاستيطانية ضد كوردستان، كان السبب الاكثر تأثيرا في ارساء الاستقرار في المنطقة، بعكس القوس الممتد من قضاء داقوق جنوب مدينة كركوك باتجاه الشرق ثم الشمال ون ثم باتجاه جنوب غرب المحافظة وصولا الى قضاء دوبز، الذي كان قوس عدم استقرار ومنطقة صدامات بين القوات الحكومية والثوار الكوردستانيين. هذا القوس الجغرافي الذي تسكنه اغلبية كوردية متمثلة بمدينة كركوك وقضاء مركز المحافظة علاوة على قضائي داقوق ودوبز، قد شهد طوال عمر الدولة العراقية حتى سقوط نظام صدام عام 2003، حالة من عدم الاستقرار المتواصل والصدامات بين مختلف صنوف قوات الحكومة العراقية وقوات ثورة التحرر الكوردستانية، صاحبه سياسة تطهير عرقي ضد السكان الاصليين من الكورد بصورة رئيسة والتركمان بالدرجة الثانية.
الحكومات العراقية التي استلمت وقادت السلطة طوال 83 عاما (1920-2003) تعاملت من المنطلق الامني مع المعارضة الكوردية بجناحيه السياسي والعسكري. واوغلت هذه الحكومات في استخدامها القوة المفرطة لكبح التطلعات الكوردية، والذي بلغ الذورة في الضربات الكيمياوية ضد الكورد وحملات الابادة الجماعية المعروفة بالانفال. رغم القسوة المفرطة حد استخدام الاسلحة المحرمة دوليا ضد الكورد ورغم الخسائر المادية والبشرية الهائلة التي خلفتها سنين الصراع، الا ان القضية الكوردية لم تنتهي مثلما كان حكام بغداد يتطلعون ويرجون. عقود من الصراع المرير وعدم الاستقرار اثبتت بان الحل الانجع هو الركون الى السبل السلميّة وبما يتوافق مع تطلعات السكان ويضمن الامن والاستقرار للبلد، وايضا الارضية الواجبة لاي تطور ورخاء وازدهار حرم منها العراقيون بسبب توالي مسلسل الصراع العبثي والخسائر المستمرّة ماديا وبشريا.
مع ان القضية الكوردية في العراق لم تصل الى حلول نهائية تبعد احتمالات الصدام والصراع، الا ان النضال المتواصل للفصائل السياسية الكوردية والدعم الجماهيري الواسع الذي تلقته من مختلف طبقات وشرائح شعب كوردستان، هذا النضال الذي جابهته الحكومات العراقية في العهدين الملكي والجمهوري بالحديد والنار، وبعد الكبوات المتلاحقة التي لقيتها الحكومات العراقية في اتباعها سياسة العصى الغليظة ضد الكورد (المتمردين) والصمود الاسطوري الذي ابداه الكورد في ديمومة ثوراتهم وانتفاضاتهم، تم قوننة البعض من الحقوق الكوردية. ولعل دستور الجمهورية العراقية الصادر ابان حقبة عبدالكريم قاسم واتفاقية 11 آذار عام 1970 والدستور العراقي الصادر عام 2005، تعد نماذج باهرة ومتقدمة من حيث اقرار الحقوق الكوردية ضمن اطار الدولة العراقية، لكن التراجع عن الالتزام بالاتفاقيات والتهرب من الاستحقاقات الدستورية من جانب الحكومات العراقية المتعاقبة، جعل الكورد يرفضون انصاف الحلول، خصوصا وان السلطات العراقية تعاملت مع كوردستان وشعبها من منطق فرض العقوبات واللجوء الى (التأديب) من خلال استخدام القوات العسكرية والامنية لضربهم.
(يتبع..)