البارزاني من عظماء الألفية الثانية
في ذكرى ميلاد الراحل ملا مصطفى بارزاني ( (1903 – 1979) : ليس دائما ، بل ونادرا ، ضمن مراحل وحقب تاريخية قد تمتد قرونا وعقودا ،وفي اطار " دور الفرد في التاريخ " ، تظهر الشخصيات المميزة ذات الطاقات المعرفية الخلاقة ، والمؤهلات الفكرية ، والثقافية ، والقيادية ، والاجتماعية ، في تاريخ شعوب العالم ، البعض منها في ايقاظ الشعوب المقهورة المنسية من ثباتها كتابة باالشعرأو الغناء والفكر والثقافة ، وفي مجالات الكفاح الوطني ضد الاستعمار والاستبداد والعنصرية والنضال من أجل الحرية والاستقلال والعدالة وحق تقرير المصير ، وأخرى من المبدعين ومخترعي نظريات وطرق لتخفيف آلام البشرية في عالم الصحة والتربية ، وبعضها في خدمة السلام والوئام المجتمعي ، أو الدفاع عن الشعوب والأقوام في مواجهة أخطار الإبادة ، والحملات العدوانية باسم الدين والمذهب والعنصر والمصالح .
ومايتعلق الامر بالكرد ، فقد ثبت كما أشارت اليها المؤسسات العلمية العالمية ، وهيئات الأمم المتحدة ، بأصحاب الأدوار الحاسمة في صنع التاريخ ، حيث أدرجت كل من الكرديين ( صلاح الدين الايوبي " بداية الألفية الثانية " وملا مصطفى بارزاني " أواسط الألفية الثانية " ) ، كشخصيتين مميزتين مؤثرتين في الألفية الثانية للميلاد ،الأول في قيادته لمقاومة العدوان الخارجي على المنطقة بداية القرن الثاني المعروف بالحملات الصليبية ، التي قادها ملوك وأمراء أوروبا ، بتزكية ورعاية الكنيسة ورجال الدين ، قبل عمليات الإصلاح الديني ،وضبط نفوذ الكنيسة في تدخلها بشؤون الدول وعالم السياسة ، وقد استطاع الايوبي وحوله نخب مقاتلة من عائلته ، ومن كرد رواندوز ، وشيروان ، وآمد ، وهكاري ، وبدليس ، والجزيرة ، والموصل ، توحيد مكونات المنطقة ، من الكرد ، والعرب ، والتركمان ، وبعض المسيحيين ، وتنظيم صفوفهم ، لدحر العدوان وتحرير ما جرى احتلاله ، وخاصة بيت المقدس ، بعد حروب طاحنة ، بلغت أوجها في معركة حطين على مشارف بحيرة طبريا .
أما البارزاني ، ومنذ باكورة شبابه ، شارك مع أهله ، وسكان منطقته ، في عمليات الدفاع ضد قمع السلطة العثمانية ، التي أعدمت الشيخ عبد السلام بسبب مطالبته الباب العالي بتلبية حقوق الشعب الكردي بكردستان العراق ، وسجنه هو أيضا بالموصل ، وهو كان طفلا صغيرا ، وكذلك في مواجهة جيش الاحتلال البريطاني ، وجنود الحكومات العراقية التابعة للاحتلال ، وفي فترات عديدة صد هجمات العشائر التي كانت موالية لسلطة بغداد ، وهكذا ارتبطت حركات البارزانيين بشكل جوهري منذ البداية ،بنضال الحركة القومية الكردية ، وكانوا على صلات بحركة – خويبون – القومية ، التي انطلقت من القامشلي ، ولبنان على مرحلتين ، وكذلك – هيوا – ، وبثورة الشيخ سعيد ، وقبل ذلك بثورة الشيخ عبيد الله النهري .
نعم في عهد مصطفى البارزاني ، وقبله الشيخ عبد السلام ، كان مجتمع كردستان العراق مثل معظم المجتمعات بالشرق ، يخضع للعلاقات القبلية والعشائرية ، وكانت المواجهات الدامية دائرة على الاغلب حول الأرض ، والمراعي ، والنفوذ ، ولكن مشيخة بارزان ، المسلمة السنية ، بطريقتها النقشبندية الأكثر انفتاحا ، كانت تتميز منذ البدايات عن مثيلاتها ، من جهة الجنوح الى السلم ،والاعتدال ، وقبول الآخر الديني ، ( المسيحي ، واليهودي ، والأزيدي ) والآفاق الواسعة المتجاوزة لحدود بارزان ، نحو الانتماء القومي الاوسع ، والنزعة الوطنية العراقية ، خاصة بعد استقلال البلاد .
ان متابعة دقيقة لمسيرة حياة الملا مصطفى بارزاني ، كافية لمعرفة معدن هذا القائد الفذ ، ودوره المحوري في إعادة تعريف وبناء الحركة الكردية ذات المنشأ العراقي ، والافق الكردستاني العام ، منذ أن كان يافعا ، مرورا بتجربته الطويلة في حمل السلاح ، والمشاركة بالمعارك مع أفراد اسرته ،ومواجهة الصعاب والهجرة القسرية ، ووصوله مع نخبة من المقاتلين البارزانيين الى مهاباد ( ١٩٤٦ ) ، لنصرة الجمهورية الكردستانية الفتية ، ثم توجههم نحو الاتحاد السوفيتي ، مرورا بالاراضي الإيرانية ،والعراقية ، والتركية ، حيث كمائن جيوش تلك الدول ، وملاحقاتها الدامية ، في مسيرة طويلة حتى اجتياز نهر آراس ، والحلول في بر الأمان في ظل الدولة السوفيتية .
صحيح أنه وصحبه عانوا الامرين بعهد حكم الدكتاتور ستالين ، ورئيس آذربيجان ، الذين لم يراعيا خصوصيتهم ، بل دفعاهم بالقوة الى الكولخوذات النائية ، وعزلاهم عن العالم ، ولكن اعيد لهم الاعتبار بعهد الرئيس خروتشوف ، ونقل البارزاني الى موسكو معززا مكرما ، وصار يتواصل مع القيادة السوفيتية ، طارحا عليها قضية شعبه باستمرار ، الى أن غادر الى بغداد بعد ثورة الرابع عشر من تموز .
لقد شهد البارزاني الكثير من الاحداث في حياته ، وعاصر احتلال العراق ، واستقلاله ، ونقض اتفاقية الموصل بشأن حق تقرير مصير شعب كردستان ،وتجاهل الحقوق الكردية ، ونشوب الحرب العالمية الثانية ، وقيام جمهورية مهاباد وسقوطها ، واختبر الاشتراكية بالاتحاد السوفييتي ، وتابع الحرب الباردة ، وقاد ثورة أيلول التي توجت باتفاقية آذار للحكم الذاتي عام ١٩٧٠ ، والتقى بالقادة السوفييت وجمال عبد الناصر وآخرين .
لقد تعرض البارزاتي في حياته ، وبعد رحيله ، الى الكثير من محاولات التشويه ،والغدر ، والدعايات المغرضة ، بل واستخدم البعض اسمه في الصراعات الحزبية ، وبغض النظر عن أخطاء ، واخفاقات ، تحصل لكل انسان ، وليس هناك مخلوق معصوم عن ذلك بمافيه البارزاني الكبير ، ولكن الحقيقة الساطعة كانت ، أنه من أهم قادة الكرد في العصر الحديث ، وكان صاحب رؤيا ثاقبة ، وتجارب زاخرة بالدروس والعبر ، كان مؤسس الحزب الديموقراطي الكردستاني – العراق ، كحزب مدني ديموقراطي ، عصري ، مناضل ، وأول رئيس له ،مؤمنا بالعدالة ، والمساواة ، رافضا للظلم ، يحترم مشاعر وعقائد المواطنين ، ويدافع عن حقوق المرأة بقوة ، متمسكا بحق شعبه بتقرير المصير ، لايميز بين الناس ، لاسباب قومية ، ودينية ، وقد وجدت بزيارتي الأولى له في ديوانه ، وبين حمايته الشخصية ، البارزاني ، ومن سكان السليمانية ، وكركوك ، واربيل ، ودهوك ، والمسلم ، والكلداني ، والاشوري ، والأزيدي ، كان يحترم رجال الدين ،ويدعو الى عدم تدخلهم بشؤون السياسة ، كان حريصا على العلاقات الكردية العربية ، ويتجنب الطرق المؤدية الى التعصب ، والاقتتال ، والانتقام ، والإرهاب .
كانت سلوكيات البارزاني العملية ، وأداؤه السياسي ، كقائد للثورة ، ورئيس للحزب ، ورمز للشعب الكردي ، وزعيم أمة ، ينطلقان من تجاربه خلال عقود ، وليس من النظريات الجاهزة ، وكنت قد أعددت دراسة مطولة حول مصادر نهج البارزاني بحكم انني أحد معاصريه ، وتوصلت الى نتيجة : أن أولها ، كلمته بمؤتمر باكو ( ١٩ – ١ – ١٩٤٨ )
، بحضور ممثلين عن سائر أجزاء كردستان ، عندما كان بالاتحاد السوفييتي ، وفيها يحدد موقع الحركة الكردية كجزء من حركة الثورة العالمية ، وحق الكرد في تقرير مصيره ، وبناء دولته ، وثانيها : كلمته في كونفرانس - كاني سماق بالك - العسكري السياسي ( ١٥ – ٤ – ١٩٦٧ ) ، وكنت حاضرا في أول زيارة لي الى الثورة ، حيث حدد فيها اهداف الثورة ، ودور الحزب ، والتنظيم ، والموقف الاخوي من الشعب العربي ، وان الثورة ضد الحكومات العراقية وليس شعب العراق ، وارشادات عامة حول كيفية التعامل مع الشعب ، والموقف من المرتدين الذين التحقوا كجحوش بالسلطات .
لقد تميز الزعيم الراحل أيضا بالاهتمام البالغ بقضايا الكرد بالاجزاء الأخرى ، وكان على تواصل واطلاع بمايجري ، من خلال مساعده الأقرب اليه نجله الراحل ادريس بارزاني ، الذي كان مكلفا بملف الحركة الكردية ، بسوريا ، وتركيا ، وايران ، وانني شخصيا احمل الذكريات الجميلة في العمل مع ذلك القائد حول علاقات حزبينا وشعبينا واسردت تفاصيل عنها في كتب مذكراتي باجزائها الثلاثة .
لاشك أن نهج البارزاني أو barzanizm باللهجة الكردية بأحرفها اللاتينية التي انفردت باستعمالها في كتاباتي منذ ستينات القرن الماضي ، واقترحت على القيادة في إقليم كردستان العراق حينها بعقد المؤتمر العلمي الأول والثاني في مئوية البارزاني الكبير ونهجه ببلدة صلاح الدين وشاركت فيهما بتقديم بحثين نشرا في كتابي وثائق الفعاليتين مع نخبة من المفكرين والسياسيين والمثقفين .
لقد ظهر ، وسار ، وتشعب هذالنهج ، في ظروف خاصة بذلك الزمان ، واذا كان قد تجسد كما ذكرنا أعلاه ،باحياء وتعريف حركة الكردايتي وبقضايا النضال والثورة على الظلم ، والتضحية والفداء من أجل مصالح المجموع ، وحق تقرير المصير ، والحوار السلمي ، ومواجهة الاستبداد ، وربط القضية الكردية بمجمل النضال الديموقراطي بالعراق ، وصيانة حقوق المرأة ، والوقوف الى جانب حقوق الفقراء ، والعيش المشترك مع الشعوب والاقوام الأخرى ، والاعتراف بها وجودا وحقوقا ، وفصل الدين عن السلطة والدولة ، واحترام الأديان والمذاهب ، وتفضيل – الكردايتي – على الحزبية الضيقة ، والحفاظ على العلاقات التاريخية بين الكرد والشعوب العربية ، والتركية ، والإيرانية ، فيمكن للأجيال القادمة الاستفادة من ذلك النهج التاريخي ، واتخاذ العبر والدروس منه دائما وابدا ، وسيبقى البارزاني خالدا في القلوب والعقول ونبراسا ورمزا للكرد بكل مكان وموضع فخر واعتزاز .