صواريخ وزهور
عند الساعة السابعة من صباح يوم الاربعاء الماضي (7/1/2020) اخبرني ابني ونحن ننطلق الى مكاني عملينا، بان صاروخا بالستيا قد استهدف مطار اربيل الدولي في الساعات الاولى من صباح هذا اليوم. ربما اراد ان يسمع ردا مني للخبر الذي قاله. التزمت الصمت لان جيلنا قد اكتوى حد النخاع بالحروب الداخلية او بحروب مع بلدان الجوار وما تلتها من كوارث مازالت آثارها وتداعياتها باقية، لقد تلقيت الخبر رغم خطورته باعصاب باردة تنسجم مع طقس كانون الثاني ذات البرودة القارسة.
بعد اقل من نصف ساعة اوصلتني سيارة الاجرة الى قلب اربيل، حيث مازال وقت الدوام الرسمي لم يحل، وجدت في هذا الصباح الباكر عددا من عمال البلدية وهم منهمكون بزراعة زهور بيضاء وسط مثلث ترابي يحيط بتمثال ينتصب في الطارف الجنوبي من الشارع ذو الممرّين المحاذي لباركي شار (حديقة المدينة)، هذه الحديقة الغنّاء التي تتوسط قلب اربيل بما فيها من نافورات تعانق مياهها الفضاء، رغم مساحتها الصغيرة، الا انها تجتذب اعدادا كبيرة من السيّاح القادمين الى كوردستان علاوة على اعداد كبيرة من سكان المدينة.
هذا المثلث الترابي الذي تتراوح مساحته بين 100- 120 مترا مربعا، تم تجديده حيث احيط بسياج من الحديد المشبك او المزخرف، وتم اطلاء السياج باللون الابيض وكان عمال البلدية جميعا من شباب المدينة يزرعون، مثلما اشرت، زهورا بيضاء.
انه مشهد تراكوميدي، مدينة تزرع الزهور البيضاء في قلبها ابتهاجا بالحياة ولكي تزيد من مساحة الامل والود والانس والجمال في نفوس المقمين فيها والقادمين اليها ايضا، تستهدفها الصواريخ الباليستية في الساعات الاولى من الصباح!
اربيل لم تفعل شيئا يغضب الجوار او يتسبب الحاق الضرر بهم، بل ان كوردستان شعبا وسلطات تتطلع الى افضل العلاقات مع بلدان الجوار وغير الجوار، ولعبة تصادم المصالح والاجندات بين القوى الدولية والاقليمية علنية ومفهومة، لكن ليس من الصحيح ان يتم زرع الرعب وسط السكان الآمنين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الصراع الدائر.
انها محظ صدفة لا غير، مثلث يحيط به سياج ابيض اللون تستقبل شتلات زهور بيضاء في قلب اربيل، وقبل 2351 عام من الآن، التقا جيشا اعظم قوتين آنذاك في المثلث الجغرافي المحصور بين (اربيل، بلدة خبات الى الغرب، النهاية الشمالية الغربية لجبل بيرمام عند الساحل الجنوبي لنهر الزاب الكبير). لقد حدثت الواقعة الشهيرة باسم معركة كوكميلا (غوغميلا، او اربيللا) في القرن الرابع قبل الميلاد بين جيش دارا الاخميني وجيش الاسكندر المقدوني.
هذه المعركة التي اندحر فيها الجيش الامبراطوري الاخميني وتواصل اندحاره حتى سقوط عاصمتها برسيبوليس وزوال ظلها بعد ان واصل القائد المكدوني الشاب زحفه نحو الشرق حتى بلغ نهر السند في الهند (وسط باكستان الحالية) مؤسسا اول امبراطورية يونانية مترامية الاطراف في جنوب شرق اوربا وجنوب غرب آسيا ومصر في افريقيا.
الكوردستانيون (بضمنهم سكان اربيل العتيدة) قبل حوالي 24 قرنا من الآن لم تكن لديهم اية مصلحة في تلك المعركة التأريخية التي غيّرت وجه التأريخ وكانت بداية النهاية لاحدى الامبراطوريات الايرانية التي دب الهرم في احشاءها، وايضا بداية ظهور امبراطورية الاسكندر التي فتحت ابواب العصر الهليني الذي كان نتاج تلاقح الفلسفة اليونانية وموروث الديانات الشرقية.
وحاليا، الكوردستانيون عموما والاربيليون خصوصا لا يجدون اي منفعة ترتجى من الصراع الدائر بين اكبر قوة عظمى على المستوى الدولي حاليا واحدى اكبر القوى الاقليمية. لغة النار وابجدية العنف والصواريخ غير مرغوبة لدى الكوردستانيون ولا يرونها مجدية لحسم الخلافات، انهم يستقبلون عامهم الجديد بزهور بيضاء واسيجة بيضاء وقلوب اكثر بياضا، معلنين تأييدهم ودعمهم للسلام والرفاه والطمأنينة والتقدم حتى النهاية.