ما هو دور مدينة الصدر في احتجاجات العراق؟
وتبدأ روبين تقريرها بالقول: "في الصباح كان الرجل المكتنز والأب لأربعة أطفال يرتدي اللباس التقليدي العشائري لاستقبال الضيوف في حديقته، لكن ظهرا كان يرتدي بنطلون الجينز ويحمل هاتفه بيد وقائمة الأعمال التي سيقوم بها في رأسه، وكان أمامه حوالي 6 مواقف قبل أن يصل إلى ساحة التحرير في بغداد، نقطة البدء بالنسبة للمظاهرات التي تهز العراق".
ويشير التقرير إلى أن هذا الرجل هو باسم الكعبي (41 عاما)، وهو واحد من عدد من الناس الذين يقومون بتنظيم المظاهرات في مدينة الصدر، وهي منطقة كبيرة وفقيرة في بغداد لها تاريخ في معارضة الحكومة.
وتنقل الصحيفة عن الكعبي، الذي يعمل سائقا لسيارة أجرة "تاكسي" ليكسب قوت عائلته، قوله: "لنكن صريحين، نحن فقراء في مدينة الصدر، ونحتاج إلى كثير من الأشياء: مدارس، وعيادات صحية ووظائف"، وأضاف: "للأسف أننا صدقنا السياسيين الذين قالوا (انتخبونا ونحن سنقوم بما نستطيع لصالحكم)، لكن اكتشفنا أنهم كاذبون ونقول الآن (كفى)".
وتلفت الكاتبة إلى أنه على مدى الأسابيع الخمسة الماضية، اجتمع ما لا يقل عن 200 ألف عراقي من أنحاء العراق في كل يوم للتظاهر ضد الحكومة، مشيرة إلى أن القوات الأمنية قتلت ما لا يقل عن 320 شخصا، وجرحت حوالي 15 ألفا، بحسب مكتب الأمم المتحدة في العراق.
ويفيد التقرير بأن المتظاهرين غاضبون بسبب الفساد والبطالة والتأثير الإيراني، مشيرا إلى أن كثيرا منهم متعلمون وشباب حالمون بالمثالية، وهم في الغالب علمانيون من المدن، لكن أكبر مجموعة هي من الطبقة العاملة ومن الفقراء الشيعة، من جنوب العراق أو لها أصول هناك؟
وتقول الصحيفة إن هؤلاء العراقيين عانوا لعقود من الحرمان الاقتصادي، بالإضافة إلى القمع الحكومي من المسلمين السنة الذين سيطروا على الحكومة خلال الحكم الديكتاتوري لصدام حسين، ولديهم تاريخ في المقاومة العنيفة، ويشعرون بالإحباط لأنهم بعد أن عانوا من حكم صدام، والحرب الأهلية التي أتبعت الإطاحة به، ثم غزو تنظيم الدولة، لم يشعروا بأي تحسن في حياتهم.
وتنوه روبين إلى أن معظم سكان مدينة الصدر هم من أبناء المهاجرين من جنوب العراق، ويحتفظون بعلاقاتهم العشائرية هناك، ولذلك فإن المنطقة تشكل نافذة على المشاعر التي تحرك الاحتجاجات الحالية وجذورها في عادات تقاليد التحدي التي تعود لجنوب العراق، مشيرة إلى أن بأكثر من ثلاثة ملايين نسمة، فإن مدينة الصدر مكتظة وعشوائية، وتتفرع من شوارعها الرئيسية أزقة غير مرصوفة أو يكون الأسفلت فيها مشققا.
وبحسب التقرير، فإن الحمامات العامة هي من خواص الحياة هناك، وهي مكان يتصادق فيه الرجال، ومصدر للحصول على الماء الساخن، مشيرا إلى أنه كما هو الحال بالنسبة لكثير من مناطق بغداد، فإن الكهرباء لا تعمل لأكثر من نصف ساعة في اليوم، وبالكاد تستطيع أي عائلة شراء مولد خاص بها، ولذلك هناك شبكة من الأسلاك التي يشارك فيها سكان المنطقة مولدات كهرباء.
وتقول الصحيفة إن حر الصيف يعني أن الناس يعيشون في الشارع، وفي الحدائق والأراضي الخالية، وينام الناس على سطوح المنازل للهروب من الحرارة الشديدة داخل البيوت.
وتستدرك روبين بأنه بالرغم من الحرمان، إلا أن مدينة الصدر تبقى مصدرا لطاقة كبيرة أخرجت بعض أفضل الموسيقيين والشعراء والرسامين والنحاتين.
ويورد التقرير نقلا عن وجيه عباس، وهو شاعر وكاتب عراقي معروف، نشأ في مدينة الصدر، قوله: "كانت مدينة الصدر دائما محجرا مليئا بالطين وعندما تتعمق في الحفر تعثر على جواهر".
وتشير الصحيفة إلى أن الكعبي، الملقب أبو طيبة، يعيش هو وزوجته وأطفاله في بيت صغير بناه أبوه، وقام كغيره من سكان الشارع، بتحويل مساحة صغيرة على الشارع خارج بيته إلى حديقة صغيرة، ويقوم والده بالاعتناء بها، وقد حول هذه المساحة الضيقة إلى حديقة فيها الورود وأشجار الفاكهة، التي تذكره بالحدائق في جنوب العراق في أثناء طفولته، من شجرة اللانتانا إلى الورود الصحراوية والياسمين، بالإضافة إلى شجرة تفاح وشجرة تين.
وتفيد روبين بأن جاره حول مساحة مشابهة إلى ساحة استقبال خارجية، فرشها بالسجاد لاستقبال أقاربه وأصدقائه، وفي إحدى زواياها هناك بيتا طيور كبيران، فيهما طيور الكناري المغردة، في الوقت الذي تتجول فيه الدجاجات في العشب، و"يمكن للشخص أن يجلس هناك وينسى ما حوله من ضجة وبشاعة".
ويلفت التقرير إلى أن أبا طيبة بدأ في وقت سابق من هذا الشهر بعمل جاد عندما انتزع نفسه من حديقته، وبدأ بالتحضير للمظاهرات، مشيرا إلى أنه مثل الكثير من سكان مدينة الصدر، فإنه ما يزال له أقارب في الجنوب، وكان ابن عمه قد أعدم أيام صدام، وعانى هو من إهانات نظام فاسد، فدفع للحصول على وظيفة حكومية لم يحصل عليها.
وتنقل الصحيفة عن أبي طيبة توضيحه مدى سهولة الحشد في منطقته، قائلا: "طبيعة مدينة الصدر عشائرية، ومن أخلاق العشيرة أنه إن حصل شيء مع شخص، يبدأ الجميع بالمساعدة بطريقته".
وتذكر الكاتبة أنه توقف أولا على زاوية شارع، حيث يدير صديق له مطعما ليشرف على شباب يحركون شوربة العدس وفول الصويا في ستة مراجل تكفي لإطعام 500 متظاهر، ثم قام بزيارة سريعة لأقدم أسواق مدينة الصدر، حيث يعمل القصابون وباعة السمك وباعة الخضار وباعة الأقمشة متلاصقين.
وبحسب التقرير، فإن أحد الجزارين أغلق محله مبكرا لتحضير ساندويشات للمتظاهرين، فيما جذب بائع خضار قريب أبا طيبة من كمه مشيرا إلى بطانية تغطي كومة على الأرض، وجر البطانية ليظهر تحتها حوالي مئة بطيخة حضرها للمتظاهرين في ساحة التحرير.
وتنوه الصحيفة إلى أنه على بسطة القماش، قام ابن صاحب البسطة، الذي يعاني من فقدان السمع، بجمع التبرعات للمتظاهرين من أصحاب البسطات الأخرى، وأشار لأبي طيبة بأن لديه 140 دولارا، وبأنه سيقوم بتحضير الساندويشات للمتظاهرين، وسأله إن كان يمكن لشخص أن يأخذ الساندويشات لساحة التحرير، فأجابه أبو طيبة بالإيجاب.
وتقول روبين إنه من السهل أن تجد مواصلات للمظاهرات في مدينة الصدر، فهناك سيارات الأجرة القديمة التي تملأ الجو دخانا، إلى جانب العربات التي تجرها الأحصنة وآلاف سيارات التوك توك، التي قليلا ما تشاهد في المناطق الغنية من بغداد، حيث أصبحت هذه السيارة ذات الثلاث عجلات هي الباص وسيارة الإسعاف بالنسبة للمتظاهرين، مشيرة إلى قول أبي طيبة: "هذه ثورة الفقراء والمحبطين".
ويفيد التقرير بأن أول سكان مدينة الصدر، ومعظمهم فلاحون فقراء وصائدو أسماك، جاؤوا قبل 60 عاما، للهروب من النظام الإقطاعي الذي يديره الشيوخ، الذين لم يأبهوا لأولئك الذين يعملون في حقولهم ويقطفون التمور عن نخيلهم، مشيرا إلى أن الثورة والمقاومة كانت جزءا من هويتهم، فأجدادهم في الجنوب قاوموا الجهود البريطانية لاستعمار العراق عام 1920، وخسروا تلك المعركة، لكنهم لم يخسروا تشككهم من الغرباء.
وتذكر الصحيفة أن معظم سكان مدينة الصدر، مثل الكثير من سكان جنوب العراق، أتباع لمقتدى الصدر، وهو رجل دين شيعي وزعيم قومي شعبوي قاومت عائلته سلطة صدام وحزب البعث، وقام صدام باغتيال والد مقتدى الصدر وإخوانه، وعذب أفرادا آخرين من العائلة حتى الموت، كما عانى الأشخاص الموالين لعائلة الصدر.
وتشير الكاتبة إلى أنه كان هناك تجنيد إجباري خلال الحرب العراقية الإيرانية من 1980 إلى 1988، فيقول عباس، شاعر مدينة الصدر: "تأثرت بذلك كل عائلة تقريبا"، لافتة إلى أنه كان هناك استهداف روتيني لأي شخص يحاول الصلاة في مكان عام، وهو ما رآه صدام حسين جهدا لحشد الشيعة ضد السنة الحاكمين، بحسب جليل الشاكري (70 عاما)، وهو رجل دين وأحد سكان مدينة الصدر، وإمام في مسجد صغير هناك، الذي قال: "كان يمكن أن أعتقل لمجرد حملي سجادة صلاة".
ويلفت التقرير إلى أن عقود المقاومة تلك هيأت مدينة الصدر لمحاربة الأمريكيين، مشيرا إلى أن مقتدى الصدر كان يريد خروج الجيش الأمريكي من العراق، وعندما حاول الأمريكيون كبح مليشياته، تمت مهاجمة الجنود الأمريكيين بلا هوادة، فاستهدفت سيارات الجيش بالمتفجرات على جوانب الشوارع، ونصبت الكمائن للجيش في أنحاء المنطقة واستخدم الأطفال للمراقبة.
وتقول الصحيفة إن مدينة الصدر ما تزال اليوم مسلحة ومستعدة للدفاع عن نفسها، مشيرة إلى أن منظمة الصدر، التي ينتمي إليها أبو طيبة، التي لها علاقة بمليشيا الصدر، تساعد على تنسيق المظاهرات من المنطقة، وأعضاؤها حاضرون على الأرض في المظاهرات، ويسيطرون على مواقع استراتيجية.
وتنوه روبين إلى أن "أبا طيبة يجتمع عصرا بقيادات فخذ العشيرة التي ينتمي إليها، البندة، فيما كان هناك حوالي 20 رجلا من العشيرة كلهم يلبسون اللباس التقليدي، وأبناؤهم وعدة بنات يلبسون ملابس مرتبة، وكأنه أول يوم في المدرسة، واستقلوا حافلة صغيرة وعدة سيارات أجرة وشاحنة صغيرة وسيارة جيب، وعندما ساروا بدا الأمر وكأن مدينة الصدر كلها سارت معهم، وفي أحد الدوارات حشر أب وابنته نفسيهما على الشاحنة الصغيرة، وكان الكل يلوح بالأعلام وتنطلق مزامير السيارات".
وبحسب التقرير، فإن مجموعة أبي طيبة توقفت على بعد حوالي ميل من المظاهرات ورفعوا علم العشيرة، وأخرج المتظاهرون أدوات موسيقية وطبلا كبيرا ونايا، وقامت المجموعة بالمشي والرقص، وهم يهتفون "شلع قلع.. كلهم حرامية".
وتورد الصحيفة نقلا عن امرأة جاءت من مدينة الصدر ومعها خمسة أطفال، كلهم يرتدون أعلام العشيرة، قولها إنها جاءت من مدينة الصدر لدعم "إخوتنا".
وتختم "نيويورك تايمز" تقريرها بالإشارة إلى قول نجلاء لطيف (42 عاما): "نريد التغيير حقا.. لقد فرغ صبرنا الآن.. لقد صبرنا 16 عاما بعد صدام وما يزال ليس لدينا شيء".
شفق نیوز