ترامب و روحاني خصمان لدودان اتخذا من العراق حلبة للصراع وبغداد تتفرج
يشرح المشهد بمجمله واقع تقاسم النفوذ الإيراني الأمريكي في عراق ما بعد صدام حسين، وانعكاس هذا التزاحم على حال البلاد التي تبدو أقرب إلى رقعة شطرنج كبرى تتحرك عليها القطع المتعددة.
لكن القضية ليست مجرد مبانٍ وصور، بل مصير بلد يعيش ازدواجية تتكرس يوما بعد يوم في أدائه السياسي وتعاملاته الاقتصادية والتزاماته تجاه محيطه الإقليمي.
منذ سقوط نظام حزب البعث العراقي إبان الغزو الأميركي للعراق عام 2003، كان الظن أن واشنطن في طريقها لصناعة مستقر لها طويل الأمد في العراق. وكان الاعتقاد السائد أن خطوات واشنطن باتجاه ترويض خصومها الإقليميين ستنطلق من العراق الذي سيتحول إلى قاعدة أساسية لصناعة واقع جديد في المنطقة.
على رأس الخصوم الإقليميين هؤلاء كانت طهران التي لم تكن بعد قد أكملت رسم خريطة تأثيرها على صورتها التي هي عليها اليوم.
البعض يذهب أبعد من ذلك للقول إنه لو لم تغز الولايات المتحدة العراق لما كان نفوذ "دولة الولي الفقيه" في المنطقة على ما هو عليه الآن، ولما كانت هي في قلب معادلة التجاذب هذه.
اختيار عبارة "دولة الولي الفقيه" لم يأت جزافا أعلاه، فهو تمييز مقصود بين حكومة الدولة في إيران ودولة الإيديولوجيا التي لا تحدها خريطة جغرافية واضحة، والأخيرة هي التي تصنع لحكومة الدولة الإيرانية حضورها.
هكذا يمكن تشريح العلاقة المتداخلة بين إيران وحلفائها في المنطقة عامة وفي العراق خاصة، وتحديدا الذين يُعتبرون امتدادا عضويا للنظرية.
جماعات ككتائب حزب الله والنجباء وعصائب أهل الحق وغيرها بُنيت من داخل النسيج العراقي، وهي قد تختلف في ما بينها على المكاسب والمصالح، لكنها تلتزم بما يقوله "القائد" كما يصفون المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي، أو قائد قوة القدس اللواء قاسم سليماني، دون أن يهمهم مثلا ما قد يقوله الرئيس الإيراني أو أي مسؤول آخر في حكومته.
مع ذلك فإن هذه المنظومة تنعكس في نهاية المطاف على مصالح إيران الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر كما هو الحال اليوم في ظل تصاعد التوتر مع الولايات المتحدة على خلفية العقوبات الأخيرة، ومع السعودية على المستوى الإقليمي، وحتى في الداخل العراقي عند ظهور اتجاهات مناوئة لطهران وهي عديدة.
الفارق بين الولايات المتحدة وإيران في العراق أن الأولى صنعت نفوذا مباشرا في هيكل النظام عبر حضورها السياسي والعسكري المباشر، ولأنها الحاكم الفعلي للعراق ما بعد صدام، وهو ما سمح لها بالتغلغل أكثر في البيروقراطية العراقية وفي مؤسسات الحكم وأعطاها اليد العليا في عملية صناعة القرار.
لكن الثغرة التي كانت تواجه واشنطن ولا تزال في هذا الجانب، أنها كانت دوما في علاقتها مع حلفائها العراقيين تتعامل من خلف جدار عال من عدم الثقة، وهو ما لم يسمح بتطوير التأثير ليصبح عضويا أكثر، ولعل ذلك يعود أيضا إلى واقع العلاقة بين الأجنبي القادم من خلف البحار وابن البلاد، وغياب القواسم المشتركة، غير المصالح، كالدين أو المذهب أو اللغة أو العرق أو العشيرة.
في زيارته الأخيرة إلى العراق، عكس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذه المسافة باختياره القدوم ليلا إلى قاعده عين الأسد العسكرية حيث تتمركز القوات الأميركية في هذا البلد. الزيارة السرية وطلب ترامب من رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي ملاقاته في القاعدة دفع بالأخير لرفض اللقاء والاستعاضة عنها باتصال هاتفي، وإن كان مكتب عبد المهدي خفف من وقع الرفض بالقول إن اللقاء ألغي بسبب خلافات طريقة تنظيمه.
وفي المقابل، أراد حسن روحاني في زيارته أن يقدّم صورة مختلفة، وبدا جليا أن الإيرانيين وضعوا صورة زيارة ترامب أمام أعينهم وعملوا على المقارنة معها، فجاء في الصباح وطلب أن يكون أول نشاط له زيارة الكاظمية حيث ضريحا الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد، الإمامين السابع والتاسع لدى الشيعة الاثني عشرية، وبذلك بعث رسالة إيجابية إلى من يشتركون معه في المذهب في العراق بأن المشتركات أكبر من الخلافات.
ثم كان اللقاء مع الرئيس العراقي برهم صالح ورئيس الحكومة عادل عبد المهدي ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي ومعظم القادة الحزبيين والعشائريين والدينيين.
في الشارع العراقي أراء متفاوتة بشأن واشنطن وطهران، فهما تتقاسمان سخطاً سنياً من قبل من يرى فيهما سببا للتهميش المستمر وارتداداته على غير صعيد، وآخر شيعياً بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، على قاعدة أنهما يتحملان مسؤولية الطبقة السياسية التي أوصلت البلاد إلى هذا الدرك.
ما تملكه طهران ولا تملكه واشنطن في العراق هو القدرة على صناعة واقع مختلف من خلال عنصرين رئيسيين، الجغرافيا والعلاقات الإنسانية.