هل يتحقق حلم الدولة الكردية بدون حرب سنيّة سنيّة؟
كنت في بيتي في النمسا أشاهد التلفزيون في ربيع عام 2004، حين ورد خبر عن تسيير أول رحلة للطيران النمساوي في اليوم التالي من فيينا إلى أربيل، عاصمة إقليم الحكم الذاتي الكردي في العراق، والتي يسميها الكرد "هولير". طمحت أن أكون من بين ركاب الرحلة التي تغادر في اليوم التالي، لكني لم أملك فيزا. فهاتفت صديقي النافذ سرباز في أربيل، فقال لي "توجه إلى مطار فيينا غدًا، وسيقابلك مندوبًا من قِبلي يؤمن لك صعود الطائرة، وحين تصل إلى أربيل، توجه إلى شباك رقم 1، وستكون فيزتك بالانتظار".
فعلت كما طلب مني كاكا (الأخ بالكردي) سرباز. وصلت إلى شباك رقم 1، وناولت جواز سفري إلى الشابة الملازم ثاني التي قالت بوجه جميل وبشوش: " سرشاو!" (أي مرحبًا بالكردي). أجبتها: "سرشاو به خير به" (أي مرحبًا، خير على خير)، وهو كل ما أعرف من اللغة الكردية السورانية. بقيت الشابة بشوشة وفتحت معي حديثًا طويلًا بالكردية لم أفهمه. أجبتها بالعربية: "أنا لا أتكلم اللغة الكردية للأسف،" فتجهم وجهها، وقالت بنبرة عدائية بالإنكليزية: "أنت كردي لا تتكلم لغتك. هذا مؤسف ومحزن! لا تتكلم اللغة وتنكر أصلك، بل وتتحدث بلغة المستعمر الظالم الذي قتل أهلك بالغاز في حلبجة، وأضافت قائلة: "والدي يتكلم العربية، لغة المستعمر، لكنه يتكلم الكردية بطلاقة". فقلت لها بهدوء أني لبناني عربي ولست كرديًا. وقفت لتعيد إليّ جواز سفري بعد ختم الفيزا عليه فقرات اسمها على جيب قميصها "مولوكي خياط" وهو اسم اختي.
سبب اسم عائلتي واسم والدي "صلاح الدين" وبشرتي الفاتحة، كان لزامًا عليّ، في كل تعارف جديد مع شخص كردي، أن أجزم بأنني عربي (أو عوربي كما يسمّينا الكرد) ولست كرديًا.
في أول مرة زرت فيها أربيل قبل الغزو الأميركي في عام 2003، انطلقت من بغداد مع سائق أجرة كردي اسمه جوان. قال لي جوان أن دخولي الإقليم غير مضمون لأنه لا يُسمح بدخول الإقليم إلا للعراقيين الكرد من مواليد الإقليم. ولكن لم يثنني إنذار جوان عن المحاولة. دخلت الإقليم بمساعدة اسم عائلتي واسم والدي وبشرتي الفاتحة. وقبل أن يأخذني جوان الى الفندق، توقف أمام جامع كبير فخم على الطراز العثماني، فقرأت عليه "جامع جليل الخياط". بحلق جوان في وجهي قائلًا: "هنا تتعلم بالمجان لغتك الكردية، وتعود إلى عشيرتك، فالعوربي عدوك ولو تكلمت لغته. دولتنا الكردية باتت قريبة. لا تضيع الوقت وتعلّم الكردية". أجبت جوان: "ولكنني عربي، ولست كرديًا"، فردّ قائلًا بحزم: "أنت غلطان!" وعندما ودّعني جوان في فندق "تشار تشيراه" في أربيل، أصرّ على أن يكلمني بالكردية، ولم يعد ينطق بالعربية التي يجيدها أحسن مني؛ جوان أربيل أمسى غير جوان بغداد.
توجهت لاستقبال الفندق، وسألت بالعربية إن كانت هناك غرفة شاغرة لي. أجابني موظف الاستقبال بالنفي. ناولته جواز سفري ورجوته أن يساعدني على إيجاد أي فندق آخر أحجز به. قرأ اسمي، فأشرق وجهه وكلمني بالكردية مطولًا. قلت له أني لا أفقه اللغة الكردية، فردّ قائلًا: "ستتعلمها لأنها تجري في دمك. غرفتك جاهزة، فصاحب الفندق هو كاكا دارا ابن مام (العم بالكردية) جليل الخياط، والذي يسرّني أن تتعرف إليه، فهو رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة في العراق". حاولت أن أشرح لموظف الاستقبال أني عربي بلا جدوى، بل وأصرّ أني كردي سوراني عليّ أن أتعلم لغتي لا أكثر ولا أقل.
الدولة الكردية المستقلة تسري في وجدان الكرد، والعداء والكراهية للـ"مستعمر" العراقي والتركي والسوري والإيراني يغلي في دماء هُدرت من جميع الأطراف في حرب لا تنتهي.
كرد العراق الستة مليون يتمتعون بحكم ذاتي والعراق يعترف بالقومية الكردية واللغات الكردية الثلاث وبالتاريخ الكردي. بالمقابل فإن كرد تركيا السبعة عشر مليونًا لم تُعترف بقوميتهم أو لغتهم أو تاريخهم من قِبل الدولة التركية سوى في عام 2009. وفي إيران، يعيش ستة ملايين كردي، وسوريا يسكنها ثلاثة ملايين كردي. القاسم المشترك لكرد البلدان الأربعة هو توقهم لإقامة دولتهم المستقلة وشعورهم بالدونية من قِبل قوميات البلدان الأربعة.
والكرد يشكلون أكبر قومية في الدنيا ليست لها دولة. فهناك ما يزيد على الخمسة وأربعين مليون كردي في البلدان الأربعة وفي الشتات بدون دولة، فيما قطر دولة، والبحرين مملكة، بلجيكا مملكة، وجزر القمر جمهورية، وهي كلها دول ذات تعداد سكاني أقل بكثير، وكلها أعضاء في الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
ليس صحيحًا أن الكرد لم يكن لهم دولة على مدار التاريخ، فالدولة الأيوبية في سوريا ومصر حاربت الصليبيين واسترجعت القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي. وقد أسس الكرد دولة مهاباد في شمال شرق إيران بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1946، لكن إيران أجهضتها بعد أحد عشر شهرًا فقط وشنقت رئيسها. وكاد كرد العراق يستقلون في عام 1970 بعد حرب دامية مع الجيش العراقي، والتي ساعدتهم فيها إسرائيل بالسلاح والخبراء، لولا وساطة الجزائر بين شاه إيران وصدام حسين، والذي كلّف العراق خسارة شطّ العرب لصالح إيران.
باتت الدولة الكردية قريبة كما قال لي السائق جوان. ولكن هذا يعني تفتيت كل من العراق وتركيا وسوريا وإيران، وإقامة دولة كردية كبيرة. وهذه الرقعة غنية بالموارد الطبيعية والماء، ولدى أبنائها خبرة قتالية طويلة ومشاعر ثأرية وكراهية تجاه المستعمر. أهم شيء هو أن الدولة الكردية العتيدة ستكون دولة مسلمة سنيّة في مواجهة تركيا السنيّة والعراق السنيّ وسوريا وكذلك إيران. ويُذكر أن القاضي الذي حكم بالإعدام على صدام كان كرديًا، وقاتل الملك فيصل الثاني كان ضابطًا كرديًا.
فهل يتحقق حلم جوان بالدولة الكردية، فتُفتت المنطقة وتبدأ الحرب السنيّة السنيّة التي لن تنتهي؟ سيرشاو كاكا جوان… أنا عوربي أؤيد حق الكرد المشروع في إقامة دولتهم، ولكن بدون حرب سنيّة سنيّة. به خير به.