• Monday, 23 December 2024
logo

واشنطن وموسكو.. خلافات تعزز الحديث عن حرب باردة جديدة

واشنطن وموسكو.. خلافات تعزز الحديث عن حرب باردة جديدة


تُخيم أجواء حرب باردة جديدة على المشهد السياسي العالمي، تعززها وقائع صدام محتملة بين واشنطن وموسكو، يحكمها صبر الغرب والتفاوض العقلاني حول حدود مصالح روسيا الحيوية وكعكتها في المنطقة.

فهوة الخلاف بين الدولتين (وخلف كل منهما حلفاؤها) لا تتوقف عن الاتساع، ولا سيما أن كلا الطرفين يُسارع لتعزيز نفوذه وبسط سيطرته في مناطق مختلفة من العالم، وخاصة في الشرق الأوسط.

الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، كان يرفض دائماً فكرة وجود حرب باردة جديدة، ولكن الأسئلة لا تزال تتوارد إلى الذهن حول هذا الأمر. ويكاد يكون من المؤكد أن ثمة فتوراً في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، لكن غير المعروف هو هل هي سيئة كما كان عليه الحال في الحرب الباردة؟

وخلال العام المنصرم حذرت قيادات غربية من خطر روسيا على أمن بلادها، وحفلت الصحف الغربية أيضاً بعشرات المقالات التي تنذر بحرب باردة جديدة، وبخطر روسي متصاعد، قد يصل حتى إلى صدام عسكري مباشر في أوروبا أو الشرق الأوسط.

وبالرغم من أن عدداً من المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين يقرون بهذا الميزان للقوة، لكن روسيا تراهن على حشد قوى أخرى تنظر بقلق لسعي الولايات المتحدة إلى تشكيل العالم على صورتها، وإلى التحكم المنفرد بالنظام الدولي.

وتحولت الأزمة السورية إلى ما يشبه القشة التي تهدد بقصم ظهر العلاقات الأمريكية الروسية؛ بعدما تحولت لنواة حرب جديدة بين القوتين اللتين أخفقتا في التوصل لتفاهمات مشتركة لحسم الصراع الذي أودى بحياة مئات آلاف السوريين وشرد ملايين آخرين، وفتحت الباب واسعاً أمام المليشيات والجماعات المسلحة لخوض حروب بالوكالة على الأراضي السورية.

اقرأ أيضاً :

هل تشكل محادثات "الأستانة" بديلاً عن "جنيف"؟

وجاء التحرك الروسي الأخير لعزل القوة الكبرى في العالم (أمريكا) وإيجاد حل تكون تركيا وإيران طرفاً فيه على حساب واشنطن، ليؤكد هذه التوقعات، وإن كان بعض المسؤولين الأمريكيين يؤكدون أن أحداً لا يملك الحل بعيداً عن البيت الأبيض.

وخلال الأسبوع المنصرم وبعيداً عن واشنطن، جرى الإعلان (بعد سنوات من المفاوضات والاجتماعات الفاشلة)، الخميس، التوصل إلى اتفاق حول وقف إطلاق النار في سوريا، واستعداد الأطراف المتنازعة لبدء مفاوضات السلام، بوساطة روسية-تركية.

في الوقت نفسه تحاول موسكو لجعل أستانة عاصمة حليفتها كازاخستان مركزاً لتفاوض الأطراف السورية المتنازعة بدلاً عن جنيف، وقد أمر الرئيس الكازاخي، نور سلطان نزارباييف، بالاستعداد رسمياً لاستضافة هذه المفاوضات، بحسب وسائل إعلام دولية.

لكن مسؤولاً أمريكياً، رفض نشر اسمه، استخف بالجهود الروسية – التركية، وقال لـ "رويترز": "هذه الدولة التي لديها اقتصاد في حجم اقتصاد إسبانيا، أقصد روسيا، تتبختر وتتصرف كما لو كانت تعرف ماذا تفعل".

ومنذ الثورة الأوكرانية في نهاية 2013، والإطاحة بالرئيس الموالي لموسكو، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم بالقوة، في بداية 2014، ودعمت المتمردين على كييف، الموالين لها في شرقي أوكرانيا. ويدَّعي الروس، بعد تعزيز أسطولهم الجنوبي، أنهم باتوا يمتلكون تفوقاً شاملاً في البحر الأسود.

من جهة أخرى، اتهمت الأوساط الأمنية الأمريكية روسيا بالتجسس على قيادة الحزب الديمقراطي ونشر رسائل متبادلة بين قيادات الحزب، في محاولة للتأثير على مسار الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

وخلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نشر قراصنة أوكرانيون رسائل من مكتب أحد أبرز مساعدي بوتين، ومبعوثه للشؤون الأوكرانية، وأظهرت الرسائل دوراً روسياً مباشراً في التحكم بالمنشقين المناهضين لكييف في شرقي أوكرانيا. ويُعتقد أن المجموعة الأوكرانية المزعومة ليست سوى غطاء لعملية أمريكية قُصد بها توجيه رسالة إنذار للكرملين، بأن ذراع الولايات المتحدة الإلكترونية أطول بكثير من ذراع موسكو.

وبلغ التوتر بين روسيا والقوى الغربية في سوريا مستوى من التصعيد غير مسبوق منذ بداية التسعينات من القرن الماضي؛ ففي سبتمبر/أيلول 2015، فاجأت روسيا العالم بتشغيل قاعدة جوية في حميميم، وبدأت انخراطاً عسكرياً مباشراً في الأزمة السورية دون اكتراث بالرأي العام العالمي والانتقادات الغربية.

في أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت موسكو رسمياً عن أنها توصلت إلى اتفاق مع دمشق لتحويل القاعدتين الروسيتين، البحرية في طرطوس والجوية في حميميم، إلى قواعد دائمة. وبذلك أصبحت القاعدتان أول وجود عسكري روسي، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، خارج ما يعرف في موسكو بالجوار القريب؛ أي دول الاتحاد السوفيتي السابقة، المحيطة بروسيا.

اقرأ أيضاً :

وقف إطلاق النار في سوريا.. تحوُّل ميزان القوى لصالح الأسد

- التصور الروسي

في 27 أكتوبر/تشرين الأول ألقى الرئيس الروسي كلمة أمام منتدى فالداي للحوار بمدينة سوتشي، قال فيه إن اتفاقه الشخصي مع نظيره الأمريكي باراك أوباما حول سوريا لم ينجح، وأن هناك في واشنطن من لا يريد إمضاء الاتفاق، وإنه ليس من المتوقع، بالتالي، وقف سفك الدماء في سوريا.

ووجَّه بوتين اتهامات لقوى دولية، لم يُسمِّها، بأنها خلقت المنظمات الإرهابية، عندما قررت أن تغيِّر أنظمة الحكم في بعض الدول، وقال: "إن العالم يشهد إعادة توزيع للقوة العسكرية، وعلى روسيا مواجهة التحديات التي تعترضها في هذا المجال". وذكر الرئيس الروسي أن بعض البلدان اعتقدت أنها ربحت الحرب الباردة، ورأت أن تعيد ترتيب العلاقات الدولية وفق أهوائها، مؤكداً أن حلف الناتو استُخدم أداة لتحقيق مصالح سياسية.

وتتحسب روسيا من التوسع المستمر للناتو في شرق ووسط أوروبا وفي البلقان، الذي تقول موسكو إنه يمثِّل نكوصاً عن وعود أمريكية في نهاية الحرب الباردة بعدم توسع الحلف في دول حلف وارسو والاتحاد السوفيتي السابقة، في حين تقول واشنطن إن مثل هذه الوعود لم تُقدَّم قط.

وأحجمت الدول الغربية، منذ منتصف التسعينات، بالرغم من تصريحات الصداقة الغربية بعد نهاية الحرب الباردة، عن تقديم المساعدة الضرورية لروسيا من أجل إعادة بناء قاعدتها الصناعية وتحديث اقتصادها، مستهدفة بقاء روسيا أسيرة لدخلها من مصادر الطاقة، وجعلها مجرد سوق إضافية للمنتجات الصناعية الغربية.

وحتى بعد أن ساعدت مدخولات النفط والغاز المرتفعة على انتعاش روسيا الاقتصادي، تآمر الغرب، في رأي روسيا، منذ 2014 من أجل تراجع أسعار مصادر الطاقة، وفرض عقوبات مالية واقتصادية قاسية على روسيا؛ بهدف دفعها إلى حافة الانهيار.

ألكسندر دوغين، أحد علماء السياسة الروس المقربين من بوتين، يقول إنه ما لم تتبنَّ روسيا سياسة دفاع نشطة عن موقعها ودورها ومصالحها، فستتحول في النهاية إلى مجرد دولة ثانوية، تدور في الفَلَك الغربي الأطلسي.

-تصور الغرب

وثمة من اعتقد أن انتصار الحرب الباردة مثَّل انتصاراً كونياً للغرب، أو "نهاية التاريخ"، بحسب عنوان كتاب المفكِّر الأمريكي، فرانسيس فوكوياما، وأن هدف الغرب في روسيا ما بعد الحرب الباردة، التي عاشت سنوات ثقيلة الوطأة على المستوى الاقتصادي، لا بد وأن يتمحور حول مساعدتها على تجنب مجاعة، وتحولها من ثم إلى مشكلة أمنية أو مشكلة هجرة كثيفة، أو مصدر تسرب للسلاح النووي.

لكن آخرين رأوا أن النصر لم يكن حاسماً؛ كالانتصار على النازية، مثلاً، وأن روسيا لم تزل تمتلك ترسانة نووية هائلة، الثانية بعد الولايات المتحدة؛ وأن ضَعف روسيا وانهيارها الاقتصادي مؤقت، ولن تلبث أن تعود من جديد لتشكِّل خطراً استراتيجياً على أوروبا والغرب، بحسب دراسة أجراها مركز الجزيرة للدراسات السياسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

ومع الأزمة الجورجية، وأزمة أوكرانيا، على وجه اليقين، بدأت روسيا تحتل موقعاً بارزاً من الجدل الغربي حول النظام الدولي، ولم تلبث التحركات الروسية ذات الطابع الهجومي، ولا سيما في أوكرانيا وسوريا، أن جعلت هذا الجدل أكثر حدَّة.

أوباما أوضح في حديث مطوَّل لقناة (ذي أتلانتك) في أبريل/نيسان 2016، أن روسيا دولة ضعيفة، وأنها لا تمثِّل خطراً داهماً على الغرب، إلا من جهة التصرفات غير المتوقعة من رئيسها المسكون بمحاولة الرد على ضعف بلاده، ومحاولة توكيد سلطته ومحاصرة شكوك الرأي العام الروسي في قدرته على البقاء والحكم.

ولا يُخفي أوباما، الذي وصف بوتين مرة بأنه "نذل وأحمق وقصير"، أن بعضاً من مواقف الرئيس الروسي لا بد من تفهمها، مثل ردَّة فعله على خسارة أوكرانيا، التي ينكر الأمريكيون أن لهم أي دور في ثورتها ضد النظام الموالي لموسكو. لكن بعضاً من خطوات بوتين الأخرى، مثل تدخله العسكري في الأزمة السورية، لا يمكن وصفها سوى بالحُمق، برأي أوباما، الذي أكد أنها ستورط روسيا وتجعلها تدفع ثمناً باهظاً في النهاية.

لكن أوباما لم يتردد في مواجهة التحديات الروسية المستجدة في أوروبا، مستخدماً، بصورة أساسية، حلف الناتو، بنشر مزيد من قواته في دول البلطيق والبحر الأسود. وعندما تطلَّب الأمر، فرضت الولايات المتحدة عقوبات مالية واقتصادية ثقيلة الوطأة على روسيا، وضغطت على حليفاتها الأوروبيات لتبني الموقف نفسه.

يمكن القول إذن، إن ثمة توافقاً بين اتجاهات السياسة والقرار الغربية على أن روسيا دولة في أزمة؛ لأن النظام الروسي، الذي بناه بوتين، نظام رجل واحد، أكثر بكثير ممّا كان عليه الأمر في العهد السوفيتي. وبينما أرسى السوفييت، بصورة أو أخرى، ما يشبه الأسس المتعارف عليها لتسيير عملية الخلافة السياسية وضمان الاستمرارية، فإن أحداً في مجموعة بوتين لا يعرف ما الذي سيجري من بعده.

كما أن روسيا تعاني أزمة بسبب إصرارها على تميزها واختلافها، دون أن تجد لها رسالة أو دوراً مميزاً في المسرح العالمي. هذا الشعور المتفاقم بالأزمة، يقول هؤلاء، ينعكس في محاولة لنشر القوة واستعراضها، سواء في البلطيق أو الشرق الأوسط، ليس بدوافع استراتيجية دائماً، ولكن لأسباب أخرى، مختلفة كلية.

وأحد دوافع هذا الاستعراض للقوة يتعلق بالرأي العام الداخلي، ومحاولة حماية النظام واستقراره من عواقب التدهور المالي/الاقتصادي والتراجع الجيوسياسي، بتصعيد المشاعر القومية وصناعة صورة بديلة لروسيا (روسيا النِّد للولايات المتحدة).

ويرى محللون أن سياسة استعراض القوة وصناعة الأزمات التي يتعهدها بوتين تواجه واحداً من مصيرين؛ الأول: هو المزيد من التصعيد، إلى أن ينفد صبر الغرب، ويوجِّه لروسيا ضربة مؤلمة. والثاني: أن يدرك بوتين، أو خليفته، التكاليف الباهظة لهذه السياسة، ويعود، من موقع الاعتراف بمقدَّرات روسيا المتواضعة، للتفاوض العقلاني حول حدود مصالح روسيا الحيوية.

لكن يبقى سلوك الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، الذي يبدي حميمية مع بوتين أحد أهم العوامل المؤثرة في مستقبل العلاقة بين البلدين، خاصة أن إدارة أوباما تحدثت عن تدخل روسي من أجل إيصاله للبيت الأبيض.
Top