"الدولة الاسلامية" تمحو لغة المسيح من الوجود
كارثة ثقافية
تكمن وراء الأزمة الانسانية كارثة ثقافية ولغوية ذات أبعاد تاريخية، فإن انقراض لغة في موطنها، نادرًا ما يكون عملية طبيعية بل يحدث دائماً نتيجة ضغوط واضطهاد وتمييز ضد الناطقين بها. واشتهر العالم الألسني كين هايل، بمقارنته تدمير لغة من اللغات، بالقاء قنبلة على متحف اللوفر.
الآرامية
تغطي الآرامية طائفة واسعة من اللغات واللهجات السامية مترابطة في ما بينها، ولكن من يتكلم واحدة منها في أحيان كثيرة لا يفهم الأخرى. وتضع أحدث التقديرات التي تعود إلى عقد التسعينات عدد الناطقين بالآرامية في حدود 500 الف شخص نصفهم كانوا في العراق. ويرُجح أن يكون الرقم اليوم أقل بكثير، ولا يوجد بلد يعترف رسميًا بالآرامية لغة أو يحميها من الانقراض، وهذه نهاية مأساوية للغة مر زمن كانت لغة عالمية تقريبًا، نطق بها اولًا الآراميون قبل أكثر من 3000 سنة في سوريا، واصبحت لغة الامبراطورية الآشورية. إذ كانت الآرامية بمرتبة الانكليزية اليوم في العالم، لغة مستخدمة من الهند إلى مصر، وبقيت في وقت سقطت امبراطوريات مزدهرة في ظل البابليين، ومرة اخرى في زمن الامبراطورية الفارسية الأولى في القرن السادس قبل الميلاد. وكان ملايين يستخدمون الآرامية في التجارة والدبلوماسية والحياة اليومية، وحتى بعد أن فرض الاكسندر الأكبر اليونانية على امبراطوريته مترامية الأطراف في القرن الرابع قبل الميلاد، استمرت الآرامية في الانتشار وتمخضت عن لهجات جديدة، كما في فلسطين القديمة حيث حلت تدريجيًا محل العبرية المتداولة، وبالآرامية أُطلقت النبؤة بسقوط بابل خلال وليمة الملك بلشزار، كما ورد في كتاب دانيال.
هناك نحو ثلاثة آلاف سنة من السجلات المتواصلة للغة الآرامية لا تضاهيها في مثل هذا الأرث المكتوب إلا الصينية واليونانية والعبرية، وكانت للغة الآرامية مكانة مقدسة أو شبه مقدسة عند كثير من الأديان. فهي على ما يُفترض لغة المسيح التي بها نطق عبارته على الصليب "إلهي، إلهي، لماذا تخليت عني؟" واستُخدمت في التلمود اليهودي وفي الكنائس المسيحية الشرقية، حيث كانت تُعرف بالسريانية بوصفها طقس الصابئة المندائيين في العراق ولغتهم اليومية.
واستمرت الآرامية لغة واسعة الإنتشار في شرق المتوسط والشرق الأوسط بعد سنوات على مرور الاكسندر. ولم يتحوّل الناطقون بالآرامية إلى جماعات جبلية معزولة إلا بعد انتشار العربية في القرن السابع الميلادي.
ورغم التهميش، فإن هذا العالم الناطق بالآرامية، بقي أكثر من الف عام إلى أن دمر القرن العشرون ما تبقى منها، وخلال الحرب العالمية الأولى لم يكتفِ العثمانيون المندحرون بذبح الأرمن واليونانيين، بل ارتكبوا ما يُعرف اليوم بابادة الآشوريين بذبح وتهجير المسيحيين الناطقين بالآرامية في شرق تركيا. وهرب غالبية الناجين إلى ايران والعراق، وبعد عقود هاجر غالبية اليهود الناطقين بالآرامية إلى اسرائيل.
وتكفَّل آية الله الخميني في إيران وصدام حسين في العراق بتشديد الضغط على من بقوا من المسيحيين الناطقين بالآرامية واضطهادهم. وأصبح الشتات حقيقة في حياة السريان الذين انتشروا في انحاء العالم، من بلدان متاخمة للمنطقة الناطقة بالآرامية سابقًا مثل تركيا والأردن وروسيا إلى تجمعات أحدث عهدًا في أماكن مثل ميشيغان وكاليفورنيا وضواحي شيكاغو في الولايات المتحدة.
وانحسرت إلى حد كبير المندائية الجديدة المشتقة من الآرامية الجديدة في العراق وايران، ولا يتكلمها اليوم إلا بضع مئات. في هذه الأثناء تقلّصت دائرتها الغربية الجديدة إلى بلدة واحدة هي معلولة، اضافة الى قريتين مجاورتين لها شمال شرقي دمشق. وبحسب تقديرات صادرة عام 1996 كان يعيش في هذه المناطق نحو 15 الف ناطق بالآرامية بينهم العديد من الأطفال. وفي عام 2006 فتحت جامعة دمشق أكاديمية للغة الآرامية.
سوريا
ثم اندلعت الحرب الأهلية السورية، وفي ايلول (سبتمبر) 2013 سقطت معلولة بيد قوات من المعارضة، تردد أنها خليط من جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة والجيش السوري الحر. وهرب المتبقون من الناطقين بالآرامية إلى دمشق أو إلى قرى مسيحية في الجنوب، بحسب العالم الألسني فيرنر ارنولد الذي عمل مع سكان هذه المنطقة عشرات السنين. وقال ارنولد إن قوات النظام السوري استعادت السيطرة على معلولة في نيسان (ابريل) 2014 ولكن "غالبية البيوت دمرت ولم يكن هناك ماء ولا كهرباء".
عادت عائلات قليلة إلى معلولة في تموز (يوليو) بحسب ارنولد، ولكن فرص إحياء الأكاديمية تبدو ضئيلة الآن، وتنقل مجلة فورين بولسي عن عماد ريحان أحد مدرسي الآرامية في الأكاديمية انه كانت لديه "احلام كبيرة عن الأكاديمية، ولكن في هذه الحرب في بلدي لا استطيع التفكير في اللغة الآرامية". واضاف ريحان أن كثيرًا من اللغة الآرامية فُقد، وأن كثيرًا من الأطفال المسيحيين لا يتكلمونها الآن، مشيراً إلى "أن البعض يحاولون انقاذ اللغة حيثما يكونون ولكن ذلك ليس سهلاً".
لذا كانت أفضل فرصة لبقاء الآرامية حتى أوائل آب (اغسطس) في شمال العراق، بين جماعاته المتنوعة في الشمال الشرقي. ولكن عدد المسيحيين في العراق ينخفض بلا حساب منذ سنوات، من 1.5 مليون في 2003 إلى نحو 350 إلى 450 الفًا اليوم، بحسب مجلة فورين بولسي. ورغم ذلك ظل سهل نينوى بمنأى من اسوأ الأسباب وراء انخفاض عدد المسيحيين. وفي كانون الثاني (يناير) أعلنت بغداد نيتها في تحويل المنطقة إلى محافظة.
داعش
ولكن في حزيران (يونيو) سيطر تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" على الموصل وهربت قوات الجيش العراقي، وفي 6 آب (اغسطس) سيطر داعش على قرقوش، أكبر مدينة مسيحية في العراق يُقدر عدد سكانها بنحو 50 الفًا. وهرب السكان المسيحيون في ليلة مظلمة غالبيتهم باتجاه اربيل.
ورغم الضربات الجوية الاميركية خلال الأيام الماضية، ما زال داعش يسيطر على قلب اللغة الآرامية الذي أُفرغ الآن من سكانه الأصليين. ويقول العالم الألسني جيفري كان لمجلة فورين بولسي "إن الخطر الذي يهدد المسيحيين الناطقين بالآرامية الجديدة في شمال العراق خطر كبير جدًا" مضيفًا "أن في المنطقة عشرات القرى الناطقة بالآرامية، ولكل قرية لهجتها المختلفة قليلًا، وبالتالي إذا اقتُلع سكان القرى وحُشروا في مخيمات لاجئين أو تبعثروا شتاتًا في انحاء العالم، فإن اللهجات ستموت حتما".
وقال كان إن المأساة المستمرة فصولها "تعيد التذكير بالأحداث الفظيعة خلال الحرب العالمية الأولى، التي أدت إلى موت عشرات اللهجات الآرامية الجديدة في جنوب شرق تركيا".
وجمع مشروع القاعدة البيانية للآرامية الجديدة في الشمال الشرقي باشراف جيفري كان، في جامعة كامبردج أكثر من 130 لهجة كانت مستخدمة في عموم المنطقة نصفها من العراق. وانقرضت غالبية اللهجات الأخرى أو لا يتكلمها إلا أفراد مبعثرون يعيشون في الشتات.
بعد قرن من عمليات التهجير والاضطهاد، هل يمكن للآرامية المحكية أن تبقى من دون موطنها في سهل نينوى؟ ما بين الصهر والتهجير فإن التحديات التي تواجه الحفاظ على اللغة في الشتات تحديات هائلة حتى إذا بقي الناطقون بها في اربيل.
وما لم يتحرك العالم، فإن وجود داعش في سهل نينوى قد يكون الفصل الأخير في تاريخ اللغة الآرامية. فعالمياً، تختفي لغات وثقافات بمعدلات غير مسبوقة. ولكن ما يحدث للغة الآرامية يختلف كثيرًا ومخيف. إذ يجري الغاء لغة وثقافة عن عمد ومع سبق الاصرار أمام انظارنا وفي الزمن الحقيقي.