كوردستان: ملف الرعاية الصحية
إذا كان لتقدم الرعاية الصحية في معظم دول العالم المعاصر دور كبير في تقليل المعاناة وتحسين الحياة البشرية وبالتالي في الزيادة السكانية الحالية فإنها خلقت تحديا جديدا يتمثل في إخلالها الغير المباشر للتوازن المطلوب ما بين الكثافة السكانية المتعاظم في العالم وتناقص الموارد الطبيعية كما ونوعا. فكلا من تداعيات زيادة حدة الإستهلاك العالمي ومظاهر التدهور البيئي في نوعية الهواء والمياه والتربة قد أخل بالتوازن بين ما هو متاح من موارد طبيعية وما يمكن من ديمومته وذلك ضمن النظام الأيكولوجي والذي يحتضن كينونة الحياة على كوكبنا.
وعليه فهنالك إتجاه جديد يتمثل في التركيز على إتباع إجراءات إحترازية ووقائية من خلال تبني سياسات فعالة للوقاية قبل العلاج وذلك لمنع أسباب المرض قبل حدوثه أو تفاقمه. فمما لاشك فيه بأن العناية بصحة الطبيعة (Health of Nature) والحفاظ على التوازن المطلوب ما بين بنية وإيكولوجية الحياة ككل وتداعيات التقدم التكنولوجي والصناعي هي من الأوليات التي يجب أن تؤخذ بنظر الإعتبار تمهيدا للعناية بصحة الأمم (Health of Nations). ولعل ما يبرر تلك الأجراءات الأحترازية هي مؤشرات الأمراض والحساسية المتزايدة بعد الثروة الزراعية والصناعية في العالم قاطبة. وبخلاف ذلك فإن مخاطر الوقوع في دوامة الإستخدام المفرط للأدوية الكيمياوية لن تكون في صالح المجتمعات البشرية. ففي الوقت الذي أسهمت فيه تلك الأستعمالات المفرطة للأدوية في إحداث خلل ما في المناعة الطبيعية للبشر ضد الميكروبات فإنها قد حفزت أيضا زيادة الطفرات الوراثية لتلك الميكروبات الحية والمتجددة ضمن النظام الأيكولوجي المضطرب. وعليه فإن إحتمالية عودة الأوبئة التقليدية مثل الطاعون الأسود والذي أودى بحياة ثلث سكان القارة الأوربية سيكون أكثر وقعا على مصير البشرية. ناهيك عن المخاطر الحديثة لظهور الفيروسات الفتاكة مثل (Ebola, HIV, SARS, Corona) وإحتمالية إنبعاث الميكروبات القاتلة والكامنة منذ أحقاب من الزمن تحت طبقات الجليد الكثيفة في قطبي الأرض بعد ذوابانها مما يجعل الصراع المحتدم ما بين المايكرو-الجرثومي والماكرو-البشري هو العامل المحدد لمصير وجدوى سياسات الرعاية الصحية في العالم قاطبة.
ويمكن للمرء أن يدرك حجم التحديات للوصول الى سياسة حكيمة للعناية الصحية في ما يعرف بمجتمعات ما بعد الحروب. وينطبق ذلك أساسا على الحالة العراقية وعلى مستوى التحديات القائمة للوصول الى نظام حديث للعناية الصحية في إقليم كوردستان. والذي يقتضي الأستجابة ضمنا لجملة من الحقوق التي يحتمها حق الرعاية الصحية لتكون في متناول المواطن بدرجة من العدالة الإجتماعية إضافة الى ديمومة نوعية تلك الرعاية وضمن تخصيصات حكومية معقولة. كما يتداخل ملف الرعاية الصحية حاليا في كوردستان مع جملة من التحديات الأمنية في مجالات مصيرية مثل أزمة نوع وكم الغذاء الذي ممكن أن يؤكل وتلك المتعلقة بالمياه الصالحة للشرب والهواء القابل للتنفس. فمما لاشك فيه بأن موت القرى قي كوردستان وإنحسار مساحات الغابات الطبيعة عبر العقود السابقة (كولان 877) وما شهدناه من تكدس للسكان في المدن قد خلق خللا في التوازن الديموغرافي تزامن مع ظاهرة تلوث واضحة المعالم في الهواء (كولان 835). كما علينا الإقرار بأن نظام التغذية والعلاج في كوردستان قد تغير بصورة غير مسبوقة من نظام يعتمد أساسا على تناول الأغذية الطازجة يوميا والتداوي بالأعشاب الطبيعية لمجتمعنا الزراعي-الرعوي (ِAgrarian society) العريق في القدم الى نظام التغذية السريعة والعلاج الكيمياوي بالعقاقير لما بات يعرف بالمجتمع التقني (Technical society) الآخذ في الظهور. ولنا أن نتصور تأثير كل ما يختلط بالمعلبات والوجبات السريعة المحلية من مواد حافظة ناهيك عن الكم الهائل من ترسبات كيمياويات الأسمدة والمبيدات الداخلة في الغذاء المستورد لندرك حجم تداعيات ذلك على سكان كوردستان والذين تعودوا عبر تأريخهم على كل ما هو طازج وعضوي من طعام. ناهيك عن الصدمة الكيميائية الذي تعرض لها جسد المواطن من جراء إستعمالات الأدوية المتعاظم. وفي الجانب الآخر علينا أن ندرك بأن أزمة المياه المتفاقمة ليست قاصرة على الكم ولكن بدرجة أخطر على نوعية المياه المتوفرة للأستعمال. فحجم مخاطرالتلوث المتوقعة هي من الخطورة حين ندرك التداعيات الممكنة نتيجة أنخفاض سرعة جريان المياه في دجلة وما يعنيه ذلك من تصاعد مشاكل صحية مثل تلك المتعلقة بالكلية والأحشاء الداخلية للمواطنين. وإذا ما مضت الدول الجارة في سياسة البزل للمياه المحصورة في سدودها فان نسبة الملوحة والكيمياويات المترسبة فيها بعد أن تصل إلينا ستزداد اضعاف ما مسموح به دوليا للأستعمال (كولان 807817, 877, ). وعموما فإن إشكاليات أمن الغذاء والمياه والتربة قد تداخلت بطريقة ما في تفاقم الأزمة الصحية في كوردستان. فهنالك دلائل أولية ورغم إنها تحتاج للمزيد من التوثيق حول تزايد الأصابات الكلوية والمعوية وأورام في رحم النساء وجلطات دماغية وقلبية بين الطبقة الفتية إضافة الى تزايد الحالات السرطانية والحساسية بين سكان كوردستان (كولان 813).
عالميا يتواجد حاليا طبيب واحد لكل 300 مواطن في الولايات المتحدة الأمريكية بينما تهاوت هذه النسبة في عراق ما بعد الحروب وحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية (WHO) في 2011 الى 7.8 طبيب لكل 10000 مواطن في العراق. وكما تداعت نسبة العاملين في قطاع الصحة العراقية الى 0.6 لكل 1000 مواطن في 2010 مما يشكل ما يوازي 2-3 مرات أقل مما متوافر في دول الجوار مثل الأردن ولبنان. وفي الجانب النوعي لإدارة نظام الرعاية الصحية في كوردستان فهنالك حاجة ماسة لربط الخدمات الصحية بإدارة متطورة من خارج الكادر الطبي والفصل ما بين شؤون الإدارة والمالية والجانب التقني الطبي. كما أن هنالك حاجة ماسة لتطوير القدرات البشرية لدى كادر التمريض ليكتسب مهارات أفضل مهنيا وعلميا. وكما تدعوا الحاجة الى تطعيم هذه المهارات بسلوكيات أرفع من الأنسانية المهنية والتي تقتضيها العناية الصحية بالمواطن. ولنا أن نقر بأنه لازال هنالك قصور في التشريعات المطلوبة كما ونوعا للرعاية الصحية في كوردستان. فهنالك حاجة متزايدة لتشريعات تنظم مجمل عملية السيطرة النوعية للأدوية والعقاقير وضمن صلاحيات أوسع مما عليه الآن مما قد يمهد الطريق الى إعادة السيطرة والرقابة (Command & Control) على تداول وتجارة العقاقير والأدوية في الإقليم بشكل متكامل. وفي الجانب الآخر من المعادلة فلابد من توعية بيئية وصحية تمهد لأفراد المجتمع- سواء في البيت والمدرسة ودور العبادة وملتقى النخب المثقفة في النوادي وجمعيات المجتمع المدني- من التحرك الجاد وذلك من أجل إستيعاب مفهوم الرعاية الصحية المتجدد.وكما تبدو الحاجة ماسة الآن أكثر من أي وقت مضى لتأطير سياسة شاملة للرعاية الصحية في كوردستان تؤمن تكاملية سبل الوقاية مع وسائل العلاج في رعاية الصحة العامة للأمة ومما سينعكس إيجابيا على عامل الأنتاجية للفرد والمجتمع.
وعموما يجب ربط سبل الوقاية وفعالياتها مع نظام الرعاية الصحية للأمة ككل في كوردستان مما يستلزم تبني المفاهيم والمعايير التالية بغية رسم سياسة صحية متكاملة وعلى المدى البعيد:-
• تبني سياسة للأمن القومي قائم أساسا على دمج الرعاية الصحية وتطويرها كركيزة أساسية لمتطلبات الأنتاجية ورفع الأنتاج القومي على المدى البعيد.
• طرح ورقة عمل لبرنامج تطوير المؤسسات الصحية (Institutional capacity building) وإعادة هيكلتها الأدارية والفنية والعمل على إسهام وبلورة دور القطاع الخاص تدريجيا في البناء المؤسساتي ذات العلاقة.
• بلورة برنامج تطوير الكادر الطبي (Personal capacity building) وخاصة كوادر الإدارة الوسطى للتمريض والتي تعتبر اليوم أحد العوائق الرئيسية والمطلوب معالجتها حسب راي الأطباء في الإقليم.
• إعتماد عامل البيئة كمؤشر لصحة وسلامة الطبيعة وربط ذلك إستراتيجيا بالصحة العامة في كوردستان.
• إحياء التراث العريق لطب الأعشاب (الطب البديل) في كوردستان والذي يلقي رواجا متزايدا الآن في العالم جنبا الى جنب مع الطب الحديث.
• إحتواء مفاهيم المحافظة على البيئة ورأس مال الطبيعة وتطوير الإدارة الحديثة ذات العلاقة والمعتمدة كليا على أسس التنمية المستدامة (Sustainable development) والمطروحة دوليا.
• إعتماد الأسس أعلاه كمعيار لجدوى أية عملية نقل للمعرفة (Transfer of knowledge) في قطاع الصحة العامة ولقدرة الجهات ذات العلاقة.