الإنتفاضة السودانية ..حسابات الربح والخسارة
استطاعت الإنتفاضة السودانية التى أنهت أسبوعها الثالث أن تخرق حاجز الصمت وأن تتحدى القمع الأمنى لنظام الرئيس السودانى عمر البشير والتعتيم الإعلامى الذى يفرضه ، لتوصل للداخل السودانى والعالم الخارجى العديد من الرسائل بشأن الأوضاع فى السودان ، وتكشف المستور وتزلزل الأرض تحت أقدام نظام الحكم ، وتهز أركانه ، ليس فقط بالمعارضين له والثائرين ضده ، بل أيضا بالحانقين عليه من قياداته وأتباعه .
واستطاعت الإنتفاضة السودانية رغم سلميتها وماتبدو عليه ظاهريا من ضعف وعدم وجود قيادة أن تصمد فى وجه ميليشيات النظام وقوات أمنه ومخابراته، وأن تجمع كل خصوم النظام واليائسين منه على صعيد واحد ، ويبدو الآن أنها تكتب عهدا جديدا فى السودان، رغم الحزن الذى عم البلد على الدماء التى سالت والشهداء الذين سقطوا ( 210 شهيدا فى الأيام العشرة الأولى وفقا لمنظمة العفو الدولية ) ومئات المصابين وآلاف المعتقلين والمطاردات منذ بدء الإحتجاجات .
وبات الملايين من السودانيين اليوم على مايبدو أكثر إصرارا على إسقاط النظام مهما كانت الصعوبات والتكلفة، ومهما كان الحديث عن ضبابية أو سوداوية البدائل المطروحة ، وهم يرون أن موعد انطلاق هذه الإحتجاجات فى الثالث والعشرين من سبتمبر سيكون خطا فاصلا بين عهدين ، وأنه أبدا لن تعود الأمور إلى ماكانت عليه قبل هذا التاريخ ، قبل أن ينطلق المارد من قمقمه .. مارد الشعب السودانى العظيم، الذى عرف تاريخيا وبين شعوب منطقته العربية وقارته الأفريقية بعشقه للحرية وتمسكه بكرامته وثقافة أبنائه الرفيعة ، فضلا عن الطيبة والكرم والبساطة ، لكن لاشك أن وقوعه لأكثر من أربعة وعشرين عاما تحت حكم عسكرى تسلطى يرفع شعارات إسلامية أثر كثيرا على أوضاع السودان كأكبر بلد عربى ورابط مهم بين المنطقتين العربية والأفريقية ، كما أثر على أوضاع أبنائه ، وانتهى المقام بالحكم الذى يترأسه الرئيس عمر البشير ،والذى جاء فى انقلاب على الديمقراطية عام ،1989ليعلن أن مهمته هى إنقاذ البلد والحفاظ على وحدتها ، إلى تقسيم البلد وإنفصال الجنوب ، وبقاء مابقى منها مهددا بالتقسيم والتفتت فى ظل حروب مشتعلة فى دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وفي ظل توترات فى شمال وشرق السودان ووسطه، وقد أدى إنفراد النظام بالحكم وسياساته الإقصائية وحروبه الممنهجة على خصومه وكبته للحريات وسوء إدارة البلد وإنتشار الفساد وقهر الناس باسم الشريعة ، إلى جعل السودان بلدا طاردا لأبنائه ، حيث شهد أكبر معدلات هجرة ونزوح ولجوء.
وقد عرت الإنتفاضة السودانية نظام البشير وزادت من عزلته داخليا وخارجيا، وأظهرت دمويته فى مواجهة الإحتجاجات السلمية ، وأسقطت عنه الشرعية والمشروعية الأخلاقية، وبدا واضحا بشكل كبير حجم الأكاذيب التى كان يحاول ترويجها فى كل مأساة من مآسى السودان عن التدخل الغربى والأمريكى والإسرائيلى والمؤامرة عليه وعلى العروبة والإسلام ، وكانت مثل هذه الأقاويل تجد فى السابق صدى كبيرا فى الشمال السودانى والدول العربية وغيرها ، أما الآن فلم يعد أحد ليصدق بسهولة مثل هذه الأقوال . وبالتالى سيجد النظام السودانى صعوبات كبيرة فى توفير شبكة أمان عربية له تمنعه من السقوط، بعد فقدان مصداقيته وتوتر علاقاته مع كثير من الدول العربية المهمة ، والقرض القطرى الأخير ربما لن يكون ذا جدوى كبيرة فى ظل تعقد أوضاعه .
وأظهرت الإنتفاضة كذلك حقيقة الاوضاع التى كان يعانيها الشعب السودانى ونضالاته للخلاص من هذا النظام الديكتاتورى ، وانه لم يكن خاضعا خانعا فى ظل هذا الحكم ، بل سعى مرارا ومنذ أول لحظة للخلاص منه ، عبرمحاولات للإنقلاب العسكرى وللعمل المعارض السلمى والمسلح ، وأيضا هبات شعبية ومطالبات واحتجاجات وتمردات ، ولكن الآلة العسكرية والأمنية والمخابراتية للنظام أحكمت قبضتها بالحديد والنار على البلد ، وسعت لإخضاع وترهيب الخصوم بفتح بيوت الأشباح واختراق الأحزاب وملاحقة المعارضين حتى فى حياتهم الشخصية ومحاولة تحطيمهم معنويا ، ولجأت أحيانا إلى الترغيب بالمنح والعطايا أو المناصب ، أو بحلول تلفيقية وإتفاقيات هلامية ...وكل ذلك أمد عمر النظام فى السلطة ولكن بأثمان باهظة للغاية ، دفع ثمنها ملايين السودانيين من وحدة بلدهم وسمعته وكرامته وحياتهم بل ومن مستقبل أبنائهم وبلدهم ، فقد ضيع هذا النظام فرصا كبيرة على السودان للإستقرار والتوافق والنهضة ، وقدم تنازلات كبيرة للخارج ، وانتهى به المطاف إلى عكس كل ماتشدق به زعماؤه طيلة سنوات حكمهم ... فانتهوا بالبلد بلا وحدة ولاسلام وبإنهيار إقتصادى وتلال من الجماجم وسيول من الدماء وملاحقات دولية وأكبر عدد من القوات الدولية والتدخل الخارجى ، ونفور من النموذج الإسلامى المشوه الذى قدمه فصار عبرة ومضربا للأمثال فى الإساءة للبشر والتشويه لدين الله .
وقد أعادت هذه الإنتفاضة لقطاعات واسعة من السودانيين الثقة مجددا فى أنفسهم كشعب معلم قائد قام بأول ثورتين شعبيتين فى المنطقة يوم أن كانت تغط فى سبات عميق ، فى أكتوبر 1964 وفي أبريل 1985 لتطيحا بحكمى الرئيسين الأسبقين عبود ونميرى .
وجعلت الإنتفاضة السودانيين يعيدون إكتشاف قدراتهم وأنفسهم ونقاط ضعفهم ومكامن قوتهم ، وعززت الشعور القومى بانتمائهم إلى بلد عظيم يستحق مكانة أفضل ، وأسقطت الإنتفاضة السودانية العديد من الحواجز التى عمقها نظام الإنقاذ بين السودانيين تارة باسم القبلية وتارة أخرى باسم الدين أو الجهة أوالطبقة أو...، وكثير من السودانيين يراجعون الآن العديد من مسلماتهم وحساباتهم ، ويعيدون طرح رؤى بديلة لكل ماهو قائم ، ويدركون أكثر من أى وقت مضى حاجتهم لوطن يقام على أسس العدل والمساواة والمواطنة. وقد هزت الدماء التى سالت فى الخرطوم بشدة إنسانيتهم وضمائرهم ، وذكرتهم بقوة أن الدم السودانى واحد وأنه كله حرام ، سواء ماسال منه فى الخرطوم أو بعيدا عنهم فى الجنوب ودارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وفى الشمال والشرق . وقد ذكرهم النضال والموت بأن حالهم واحد وأن معركتهم واحدة ومصيرهم واحد ، وأنهم شعب واحد ، بحاجة إلى التخلى عن كل مايفرقهم من عنصرية أو قبلية أو أى دعاوى أخرى ، والأهم أن الإنتفاضة منحتهم الأمل بأن التغيير قادم لامحالة ، وأنه صار أقرب من أى وقت مضى .
وقد كشفت الأحداث الأخيرة عن جيل جديد من الشباب فى السودان ، لديه رؤية وقدرة على التنظيم والفعل والعطاء والفداء، وغالبية هؤلاء الشباب الذين قادوا الإنتفاضة ولدوا وعاشوا فى ظل نظام البشير ، ولم يعيشو فترات الديمقراطية بالسودان التى عاش فيها آباؤهم وأجدادهم ، فصلاح سنهورى و هزاع وغيرهم من الشهداء ....الذين يهتف الآن المتظاهرون فى السودان بأسمائهم هم من هذا الجيل الذى ولد ونشأ فى عهد نظام الإنقاذ ، الذى فرض على السودانيين أنماطا محددة من المعيشة والثقافة والتعليم والدين والتفكير، ورغم ذلك كفر هؤلاء الشباب بكل هذا وثاروا عليه، وكانوا بالتالى أكبر إدانة له وأكبر دليل على فشله ، وقد كسر هؤلاء الشباب حواجز كثيرة من الخوف والترهيب والقمع الأمنى، وواجهو الموت بصدور عارية وببسالة منقطعة النظير، وأثبتوا أن تطلعاتهم للحرية والكرامة والحياة الكريمة مثل جميع أقرانهم فى الدول العربية ، وأنهم جديرون بحياة أفضل .و بدا أن الشباب السوداني المنتفض قد اكتسب بعض الخبرة، ولجأ لتكتيكات مغايرة ، واستطاع هؤلاء الشباب نقل وقائع القتل بالرصاص الحى والقمع الأمنى، بالصوت والصورة ومقاطع الفيديو، وتوصيلها لوسائل الإعلام المختلفة، وأيضا للمواقع الإليكترونية وشبكات التواصل الاجتماعى . وأظهرت الإنتفاضة السودانية معدن الشعب السودانى الأصيل وقدرته على التضامن فى المحن وشجاعة نسائه وفتياته فى مواجهة الموت والإعتقال والتعذيب ، وعن دور كبير لعبه أبناؤه فى المهاجر والشتات ، الذين خرجت مظاهراتهم فى كل بقاع العالم ولاسيما العواصم الغربية للضغط على صناع القرار والرأى العام بها.
كان خروج الجماهير إلى الشوارع فى السودان أشبه ما يكون بإنفجار بركان أو زلزال ، ولم يكن هناك موعدا مضروبا لذلك ، ولم يكن ذلك إستجابة لنداء من زعيم أو قائد أو حزب ، بل خرج الناس بعد أن فاض بهم الكيل وبلغ بهم إحساسهم بالذل والمهانة واليأس واللاجدوى من الوضع القائم إلى أقصاه ، وسكب التعامل الأمنى الوحشى معهم الزيت على نار جروح قديمة متجددة ، فازداد الغليان ، وفاجأ الإنفجار الشعبى الجميع فى الداخل والخارج ، قيادات الحكم والمعارضة على حد سواء ، فاجأ الامر من كانوا قد ظنوا أن هذا الشعب فى حالة موات أو خضوع للأمر الواقع ...وهذه الجماهير هى من يمارس الضغط ويرفع سقف المطالب على الحكومة والقيادات المعارضة ، فالجماهير الآن فى السودان لاتصرخ غضبا وسخطا فى وجه الفئة الحاكمة وحدها ، بل أيضا فى وجه زعمائها فى المعارضة تريد منهم كما تهتف "موقف واضح" معلنة رفضها القاطع الجازم لأى مواقف مائعة أو أى إمساك للعصا من المنتصف، محذرة هذه القيادات بأن الأمور ستتجاوزها، وأن هذه الإنتفاضة ستمضى بها أو بدونها ظافرة منتصرة .
والتطور الأهم الآن فى السودان ليس هو فقط مايواجهه النظام الحاكم من الثوار فى الشوارع والميادين ، ولا من الأحزاب والقوى السياسية التى تعلن تبرؤها منه وتلتحق تباعا بالإنتفاضة ، ولاحتى من الجبهة الثورية التى تحمل السلاح وتتوعده بالويل والثبور ، بل ممايلاقيه من تمرد وثورة داخل صفوقه ، فالثورة تضرب الآن بعنف كيان الحركة الإسلامية التى ينتمى إليها النظام الحاكم وحزب المؤتمر الوطنى الذى يحكم من خلاله ، وقد خرج الخلاف فى أوساط الإسلاميين والقيادات الحاكمة فى السودان إلى العلن بقوة ، لتؤكد أن نهاية النظام قد اقتربت ، وأن سياساته ماعادت مقنعة حتى لأتباعه وأعضائه ، الذين يسارعون الآن للتبرؤ من أعمال القتل والجرائم التى يرتكبها النظام باسمهم ، ربما للنجاة بأنفسهم وبحركتهم الإسلامية وبالبلد أيضا . بينما يبدو من يحكمون وكأنهم دائرة ضيقة جدا معزولة لاتمثل الحركة الإسلامية ولاعموم الإسلاميين ، وحتى داخل هذه الدائرة الضيقة ليسوا جميعا على قلب رجل واحد، وهناك منهم من لايرغب بالقطع فى تصعيد الموقف وإشعاله، ومن هو أكثر تعقلا من الآخرين .
وتواجه الإنتفاضة السودانية سيناريوهات واحتمالات عديدة ومفتوحة ، وهناك قوى عديدة تسعى لحصد ثمارها ، فضلا عن وجود قوى إسلامية أخرى داخل النظام أوخارجه تسعى لاستثمارها ، وجنى المكاسب ، ربما عبر بانقلاب قصر أو إنقلاب عسكرى، وقد شهد السودان قبل أشهر محاولة إنقلابية فاشلة تم الإطاحة بها، تزعمها الفريق صلاح قوش رئيس المخابرات السابق وعدد من القيادات العسكرية الإسلامية داخل الجيش. والآن هناك أنباء عن حالة تذمر كبيرة فى أوساط الجيش السودانى ، وعن بوادر لحالات انشقاق وشيكة إن لم تكن هناك مبادرة بالتغيير من داخل النظام نفسه .
والمؤكد أن الأمور فى السودان بعد 23 سبتمبر موعد إنطلاق شرارة الإحتجاجات قد أصبحت مختلفة عما قبلها، وأن التغيير قادم فى السودان لامحالة ، يرغب فيه الكثيرون ويعملون من أجله رغم كل الصعوبات ، فأى وضع قادم مهما كانت سودوايته لن يكون أسوأ من الوضع الحالى كما يقول العديد من السودانيين .