• Friday, 19 April 2024
logo

المجتمع المفتوح ... تلاشي سحر الايديولوجيا

المجتمع المفتوح ... تلاشي سحر الايديولوجيا
لقد اوصلنا الاستهزاء بالفكر الى الانحراف في غوغائية شاملة ابعدتنا عن المقدرة في التفكير والنظر واسبغت الفوضى على ممارساتنا الاجتماعية ... اذا ما اردنا للمجتمع ان يتجاوز ازمته المتفاقمة وان يسترجع قواه ويدخل ثانية في مجرى التاريخ فلا بد من القيام بعملية نقد حضاري يمكنه من خلق وعي ذاتي مستقل واستعادة العقلانية الهادفة .
ولا يمكن تحقيق هذا الا من خلال التفاعل الفكري الحر والنقاش المستمر , لا بين المفكرين والمثقفين فحسب , بل بين جميع الفئات والاحزاب والتجمعات وعلى صعيد المجتمع ككل ... ويرجع الفكر الى حيث ينشأ حرا في الحوارات الافقية المفتوحة بين فئات المجتمع المدني , لا على مستوى المنظرين الايديولوجيين .
هشام شرابي



الحديث عن المجتمع المفتوح هو حديث عن ذلك المجتمع الذي تتعرض كل مكوناته للنقد الحضاري , بمعنى ان مجتمعنا الذي لا نرضى عنه كأفراد والذي ننتقده على الدوام , ولكن البشرية لم تات ببديل افضل من النظام الديمقراطي للحكم , وهذا التوجه يفيدنا الى ان نلجأ الى البناء الديمقراطي والنظام الديمقراطي من اجل ادارة الاعمال والانشطة اليومية للمجتمع , وهذا لا يعني مطلقا ان النظام الديمقراطي هو افضل انظمة الحكم و بل يعني ان من بين كل انظمة الحكم التي طبقت حتى الان فان النظام الديمقراطي هو الافضل من بين الانظمة السيئة , والفوارق والخصوصيات التي تميز النظام الديمقراطي عن الانظمة الاخرى هي :
ان النظام الديمقراطي يفسح لنا المجال للنقد المستمر للانظمة السياسية ويجيز لنا تصحيح اخطاءه , هذا النظام يمنحنا الفرصة لتغيير النظام واستبداله بطرقة سلمية وبدون ممارسة العنف او اراقة الدماء , ولهذا فاذا ما حاولنا تعريف الديمقراطية من هذا المنظور فاننا سنجد ان الديمقراطية ليست عبارة عن اختيار الشعب للحكم بل في اعتبار ان الشعب بامكانه تغيير الحكم , وتغيير الحكم ليس على اساس ان هذا سئ وسنستبدله بحكم افضل , كلا بل ان هذه السلطة التي تدير الحكم الان , لديها برامج جيدة ولكن هناك برنامج بديل و افضل ,لذا يفترض بـ ( الجيد ) ان يتخلى عن مكانه للـ ( اكثر جودة ) وعليها ان تتبادل معه السلطة بالطرق السلمية و وهذا يأخذنا باتجاه اننا لن نحصل على مجتمع مفتوح عبر ايديولوجيا معينة او توجه فكري مغاير او من خلال الحوار بين نخبة المثقفين والمفكرين فحسب ,بل ان المجتمع المفتوح بحاجة الى تاسيس تجمع يضم كل الافكار المختلفة باتجاه ( افقي ) بين كل المكونات الدنيا للمجتمع وكل الشرائح ومجاميع منظمات المجتمع المدني والاحزاب السياسية , لغرض ايجاد فكر حر بامكانه افراز نقد معاصر , نقد يسعى لتحقيق القيم العليا للانسان وتوفير الارضية لتوجيه قدرات المجتمع بشكل يشعر فيه الفرد بوعي استقلالي وان يدافع عن مصالحه داخل المجتمع بشكل عقلاني وان يؤمن بان حريته تنتهي عندما تبدأ حرية الاخرين ,ويشعر ايضا انه صاحب لاملاكه الشخصية وله حق التعبير وحق المشاركة في العملية السياسية وان هناك قانونا يحفظ له هذه الحقوق , والحفاظ على هذه الحقوق للفرد تقضي ان :
1 ـ ان يكون العمل لدى الفرد مقدسا وان يزول ذلك الوهم الذي يحطّ من القيم المقدسة للعمل , ولكي يزيل ماكس فيبر حالة اليأس هذه لدى الفرد الغربي , عمد الى احياء الخاصية الروتستانتية داخل المذهب البروتستانتي من اجل ان لا يقف الدين المسيحي عائقا امام قدسية العمل .
حول محاولة ماكس فيبر هذه لتغيير خصائص المسيحية , يقول شلومو فينري :
( اسس ماكس فيبر المذهب البروتستانتي لكي يقول ان مسيحيو الغرب , على عكس مسيحيي الشرق , يقدسون العمل , وهذا المنهج الذي سماه ماكس فيبر ( روح الراسمالية ) واصبح سمة للبروتستانتية , كان عاملا للتطور الكبير الذي شهده عالم الرأسمالية الغربية وعاملا لتثبيت النظام الليبرالي .
2 ـ الحث على العمل وعلى احترام الابداع , جانب اخر من افرازات المجتمع المفتوح ,فلا شك ان مؤسسات المجتمع المفيوح تبنى على اسس ومبادئ تشجّع على ممارسة العمل والابداع .

3 ـ ومن اهم النقاط التي لابد من توافرها لحماية الحالات التي اشرنا اليها سابقا , هو الحفاظ على حق الملكية الخاصة وحق الملكية الفكرية , واذا ما توقفنا عند هذه النقطة فاننا سنرى ان نوعان من رأس المال يديران الامور في المجتمع المفتوح , الاول هو رأس المال المادي الذي يمهد الطريق لانجاز مشاريع تدفع المجتمع الى التطور والتقدم , اما الثاني فهو رأس المال المعرفي الذي يؤدي الى نشوء الطبقة الوسطى والى فرض سيادة القانون .
هذه النقاط الثلاث هي مدخل الى المجتمع المفتوح والى الاستقلالية الفردية من اجل العمل والابداع , تغيير العلاقات الاجتماعية والروابط بين الافراد في المجتمع , وتنظيمها من جديد لوضعها في اطار مشروع عقلاني ,وهذه العقود والمواثيق التي تربط بين افراد المجتمع , وهذه الاسس العقلانية التي تضع كل مكونات المجتمع تحت طائلة النقد والمساءلة من اجل النهوض بقيمة الفرد وتجعل من انتقاد النظام الديمقراطي و محركا يدير عجلة التطور , تيجدر هنا الاشارة الى كوريا الجنوبية والشمالية كمثال ,هذان البلدان اللذان انفصلا منذ 57 سنة , هاتان الدولتان لهما ذات التاريخ وذات اللغة وعلى الرغم من عدم وجود بحوث علمية تشير الى ان قدرة مواطني كوريا الجنوبية اكبر من قدرة مواطني كوريا الشمالية ,لكننا اذا ما القينا نظرة بعد 57 سنة على نتاج مجتمع واحد وامة واحدة يسخران قدراتهما بطريقتين مختلفتين , فسنرى على طرفي الخط العريض 38 الذي هو عبارة عن اسلاك , باتت حدودا بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية , كل منهما يدير شؤونه ويسخر قدراته على اسس عقلانية , غير اننا سنجد ان الرأسمال المادي والمعنوي قد اوصل كوريا الجنوبية الى مصاف دول العالم المتقدمة فيما الايديولوجيا التي تدير شؤؤن كوريا الشمالية , ابقت البلاد ضمن اطار العالم الثالث , بمعنى ادق , ان كوريا الشمالية تصنف الان مع دول افريقيا المتأخرة فيما تصنف كوريا الجنوبية ضمن دول اوربا المتقدمة , وهذا الكلام ينسحب على المانيا ايضا , اذ ان المانيا الغربية بنت نفسها ـ بعد الحرب العالمية الثانية ـ على المبادئ العقلانية وعلى اسس المجتمع المفتوح , على عكس المانيا الشرقية التي اعتمدت ايديولوجيا الاتحاد السوفيتي في بناء نفسها , نتاجان مختلفان لارادة امة واحدة , قدمهما الالمان الى العالم , مدينة برلين التي قسّمها الجدار الى شطرين , شرقي وغربي , كانت تضم عالمين مختلفين , فالقسم الذي كان يتبع المانيا الغربية , كان مجتمعا منفتحا فيما كان الشطر التابع لالمانيا الشرقية مجتمعا منغلقا ولهذا فان الاحتقان داخل المجتمع المغلق وصل حدا انتهى بسقوط جدار برلين ,ومع انهيار جدار برلين انتهت الحرب الباردة .
اذن , فان هذا هو المجتمع المفتوح الذي يزيل سحر الايديولوجيا ويتحول الى بداية للمشروع العقلاني والمثال الالماني يصلح لكوريا الشمالية ايضا , فزوال اسلاك الخط العريض 38 سيقضي على النظام الشيوعي في كوريا الشمالية وستبدأ كوريا الشمالية بذات المشروع التنموي والعقلاني الذي بدأته كوريا الجنوبية قبل 50 عاما .

حول اهمية المجتمع المفتوح ومعنى المجتمع المفتوح سألنا البروفيسورة ايرينا سلونيكو من جامعة كييف في اوكرانيا فقالت لمجلة كولان :
( المجتمع المفتوح مجتمع لا يستطيع احد ما ان يدعي فيه انه هو صاحب الحق المطلق وان الحقيقة موجودة لديه هو وحده فقط ,غالبا ما يكون هناك العديد من الرؤى ووجهات النظر المختلفة حول الحقيقة , ومن هذا المنطلق فان البدائل عادة ما تلاقي قبولا والحوارات والمناقشات لا تنقطع حول المساءل المختلفة , أي لا يمكن الادعاء بوجود حقيقة كونية او عالمية وكل ما عدا ذلك لا صحة ولا اساس له , ولهذا اذا ما نظرنا الى معنى الحرية ضمن اطار المجتمع المفتوح فسنجد ان حريتنا تنتهي عندما تبدأ حرية الاخرين ,وهذا خط احمر ولا يمكن تجاوزه , وهناك قواعد خاصة بكل مجتمع لتنظيم هذه المسألة تتجسد في الدستور وفي القوانين , وهذا يعني ان هناك قواعد واحدة لكل الاطراف وعلى الجميع الالتزام بها ,واذا ما تم تأويل و تفسير هذه القواعد بشكل مغاير,اذ يمكن الاستفادة منها بشكل سئ , فان من واجب المحكمة ان تتصدى لذلك ).
وحول فوارق وخصوصيات المجتمع المفتوح ,سألنا البروفيسور تودر فلاد مساعد مدير مركز فوكس والمتخصص في الاعلام , عن كيفية الحفاظ على شفافية وانفتاح المجتمع فقال :
( المجتمع المفتوح مجتمع تطبق فيه الشفافية على مختلف المستويات و على مستوى اتخاذ القرار على مستوى العلاقة بين الحكومة واجهزة الاعلام ,ولهذا فانا اعتقد ان الحفاظ عليها هي محاولة يجب ان يشارك فيها كل مؤسسات المجتمع , بدءأ من الاحزاب السياسية مرورا بالحكومة وانتهاءا بالاجهزة القضائية .كما على الاجهزة وكل المؤسسات الحكومية ان تحاول تطبيق الشفافية داخل المجتمع كما ان اجهزة الاعلام ايضا يمكنها ان تساهم بدورها في هذا المجال , على سبيل المثال لا بد من الكشف عن الاطراف التي تتماهل في اداء واجباتها).

وحول انتهاك المبادئ الاساسية للمجتمع المفتوح وعدم الاعتراف بها بالتعويل على الحرية قال البروفيسور تودر :
( انا اتفهم قلقكم , بناء المجتمع المفتوح عملية معقدة , فعلى سبيل المثال و انا انتمي الى بلد هي رومانيا التي كانت شيوعية طوال 50 سنة , وهي تمارس تثبيت المشروع الديمقراطي منذ 20 سنة , ورغم ذلك لا يمكننا ان نقول ان المؤسسات صلدة وقوية ولكن شغف رومانيا لكي تصبح عضوا في الاتحاد الاوربي اصبح دافعا لرومانيا من اجل الاسراع في تثبيت الديمقراطية في المجتمع , اذن فان ضغوطا ايجابية من قوى خارجية قد ان يكون لها تاثير ايجابي في عملية الاسراع في تنفيذ هذا المشروع.

فيما يتعلق بالاحزاب السياسية فانا اعتقد ان عليها ان تحاول اشاعة القيم الديمقراطية داخل الاحزاب نفسها و عليهم ان يسعوا الى التوسع , من جهة اخرى , صحيح ان الاحزاب السياسية تعتبر من العوامل الاساسية في نشوء الديمقراطية ولكنهم ليسوا اللاعب الوحيد في الساحة اذ ان للاجهزة الاخرى دورها ايضا كاجهزة الاعلام والسلطة القضائية).

دور النخبة المثقفة واجهزة الاعلام في مشروع البناء الديمقراطي والمجتمع المفتوح , وقد اشرنا الى ذلك في البداية وقلنا ان بناء المشروع الديمقراطي وتحويل المجتمع الى المؤسساتية وبناء المجتمع المفتوح هو عمل منوط بالرأسمال المادي والمعرفي داخل المجتمع من اجل ارساء بنية تحتية يمكنها بناء سيادة القانون في البلاد ومن اجل ان يشيع الفكر الحر المشروع العقلاني بشكل افقي , داخل مجمل مكونات المجتمع وان لا تربط ايديولوجيا معينة الافكار والتصورات حسب اهوائها ولتحقيق اهدافها وان لا تجعل من الفكر المعرفي الحر عاملا من اجل تجميل صورة المفاهيم الايديولوجية الخاصة بها .
يقول البروفيسور الفلسطيني الراحل هشام شرابي في كتابه ( نقد حضاري للمجتمع العربي ) ان سبب تأخر مشروع التغيير داخل المجتمع العربي , يعود الى عدم ولادة الفكر الحر بشكل افقي , داخل مكونات المجتمع العربي , ولهذا فانه يقول وبصراحة :
( ان التاريخ يثبت وجوده من خلال الامة والجماهير وليس من خلال المفكرين والمثقفين والقادة وهذا هو السبب في عدم وجود أي تغيير داخل المجتمع الى حين ان تنضج التصورات والاهداف داخل المجتمع لصالح هذا التغيير).

نضج التصورات والاهداف داخل المجتمع يعني ان هذا الفكر الحر يتعرض للمناقشة داخل المجتمع وهذه هياهم مشكلة تعاني منها المجتمعات العربية والاسلامية اذ ان الايديولوجيا الموجودة داخل هذه المجتمعات لا تسمح بوجود هذه المناقشات الحرة من اجل ولادة هذا الفكر الحر , وهذا الوباء قد طال المثقفين في المجتمعات العربية والاسلامية اذ انهم يسعون الى فرض نتاجهم المعرفي على المجتمع عن طريق ايديولوجيا احزاب الاسلام السياسي او الاحزاب اليسارية .

ولهذا فحينما يحل مفهوم الايديولوجيا محل الفكر الحر, تظهر الايديولوجيا الحزبية ( اسلامية كانت ام يسارية ) داخل المجتمع , وكذلك اجهزة الاعلام فانها وبدلا من ان تمارس مهماها انطلاقا من مبادئ الصحافة والحفاظ على الحريات داخل المجتمع وان توجهه بشكل ايجابي , نراها تقع تحت طائلة وتأثير ايديولوجيا احزاب الاسلام السياسي او ايديولوجيا الاحزاب الشيوعية واليسارية , واذا ما وقع الاعلام تحت تاثير أي من هاتين الايديولوجيتين , فانها وبدلا من ان تنتج نقدا عقلانيا وحضاريا , نراها تنتج نقدا ايديولوجيا , وبدلا من ان تنتج وعيا مستقلا للفرد نراها تحول الافراد الى اسرى للايديولوجيات , وبدلا من تحول المجتمع الى مجتمع مفتوح , نراها تدفع به نحو الانغلاق !

حول دور المثقفين واجهزة الاعلام في البناء الديمقراطي والمجتمع المفتوح سألنا البروفيسور ايرا كوهين فكان الرد على انحو التالي:
( المجتمع المفتوح مجتمع يمكن التعبير فيه بحرية عن كل الاعتقادات والتصورات , كما ان التصورات والاعتقادات تتعرض للنقد , اذن فان المجتمعات المفتوحة تحترم حرية التعبير وان الحقوق الفردية لها الاولوية بالقياس مع الحقوق الجماعية , في الحقيقة لا يمكن ايجاد المجتمع المفتوح من فراغ لأن هذه الاحتمالات مرتبطة بالظروف التاريخية وبشكل خاص التاريخ السياسي وكذلك التاريخ الاقتصادي ايضا .
فعلى سبيل المثال ان تغيير المانيا الهتلرية الى دولة ديمقراطية , كان بحاجة الى اندلاع حرب عالمية , في وقت كان المشروع الديمقراطي قد بدأ بشكل سلمي في بعض البلدان الاخرى .كما حصل مع بعض بلدان الاتحاد السوفيتي السابق, ولهذا فان احترام قيم المجتمع المفتوح, ولا سيما صيانة الحريات , واجب يقع على عاتق كل فرد ولكن الحرية لم تكن مطلقة في أي وقت من الاوقات ونحن لسنا احرارا في ايذاء الاخرين , والسؤال هنا هو كيف يمكن تعريف الايذاء ياترى ؟هذه مسألة معقدة , على كل حال , نحن لسنا احرارا بشكل مطلق بل علينا ان نمارس حريتنا ضمن اطار احترام حرية الاخرين.

اذن فان هذه الممارسة عمل ملازم للالتزام بمجموعة من القيم الاخرى كاحترام الحريات وحقوق الاخرين , ولا يجوز ان يكون هذا الاحترام مقتصرا على مجموعة اثنية محددة ( عربية كانت ام كوردية ) او مجموعة دينية محددة او جنس معين ( رجل او امرأة ) لأن هذا عمل غير صحيح وغير صحي بل علينا احترام الفرد وان ننمي ثقافة وتراثا يسعى الى احترام الاخرين على اسس الانسانية وليس على اسس و مقاييس اخرى , ومن هنا , اذا اردنا ان نتحدث عن دور المثقف داخل المجتمع فانا اقول وبصراحة اننا لا يمكننا ان نقول ان كافة المثقفين يسعون الى خدمة وتطوير مصالح المجتمع , فهناك على سبيل المثلا مثقف ما ساند سلطة شمولية للاستحواذ على السلطة , الا ان المثقفين بشكل عام لهم دور ملحوظ في خلق الرأي لدى الناس , وهناك ايضا مثقفون يسعون الى اشاعة هذه الافكار , كما لا يمكننا ان نقول , بما ان المثقفين يفكرون بعمق فانهم يفكرون مثل بعض , وهناك ايضا مثقفون يعملون من اجل اسعاد المجتمع ورفاهيته وهناك ايضا مثقفون يسعون الى الدمار والخراب .وهذا الكلام ينسحب على دور اجهزة الاعلام ايضا , اذ يجب علينا ان نسأل مالذي تنشره اجهزة الاعلام ؟ واي جهة تسيطر عليها ؟ولكن الاهم من كل هذا هو ان تسعى هذه الاجزة الى نشر المعلومة الموثوقة لتحظى بثقة الناس , وعلى سبيل المثال فان النيويورك تايمز والواشنطن بوست وقناة بي بي سي تلتزم هذا النهج الى حد ما .كما يمكن الاستفادة من الانترنيت في كلا الاتجاهين ,اي بالشكل السلبي او الايجابي, غير انني على اعتقاد انه قد تمت الافادة منها للعديد من المساءل المهمة , فعلى سبيل المثال ,لولا اجهزة الانترنيت والموبايل لما تمكن الناس في ايران من ايصال صوتهم وموقفهم الى العالم بالشكل المطلوب ).

وضمن نفس الاطار وحول دور المثقف سالنا البروفيسور جيورجي تركان مورافي مدير مركز الدراسات السياسية في جورجيا , المتخصص في السياسة الدولية والدمقرطة في القوقاز, سألناه كيف يمكن للمثقفين ان يمارسوا دورهم في التقليل من الصعاب ؟فاجابنا على النحو التالي :
( حينما تحدث كارل بوبر عن المجتمع المفتوح و الف كتابا بنفس الاسم ,فان بوبر كان يعني الديمقراطية الليبرالية الذي يتمكن فيه الجميع من التعبير عن ارائهم ,كما يمكن تطبيق الشافية , اقصد ان كل فرد حر في التعبير عن ارأئه وعن تصرفاته شريطة ان لا يؤدي هذا التصرف او العمل الى تضييق او تحديد حرية الاخرين ., لذا لابد من الاهتمام ببعض المساءل المعينة في حالة البناء الديمقراطي .

على سبيل المثال , لا بد من تطبيق التنوع السياسي وهذا يعتمد على تربية المجتمع على القيم الديمقراطية مرحلة بمرحلة او على تطبيق اسس الديمقراطية خطوة بخطوة , نحن لا نخشى من المجتمعات العريقة في الديمقراطية التي يمكنها التصدي لاية محاولة تشويه للقيم الديمقراطية , الا اننا نخشى من المجتمعات التي لم تتمكن القيم الديمقراطية من ترسيخ جذورها في المجتمع وفي برامج عمل الاحزاب السياسية , نحن نخشى من وجود حالات كهذه .كما اشرت لابد من تربية الناس على القيم الديمقراطية من اجل الوصول بهم الى مستوى لا يمنحون فيه ثقتهم لحزب لديه برنامج عمل غير ديمقراطي .

صحيح ان المثقفين والنخبة يضطلعون بدور مهم في المجتمع المفتوح ولكن علينا ان لا ننسى ان المثقفين يمارسون دورا مغايرا في بعض الاحيان , واعني ان بعض المثقفين يساهمون في تنمية القوى الشوفينية المتطرفة او ينحازون الى القوى الراديكالية, أي انهم يساهمون في تطوير القوى غير الديمقراطية , لذا علينا ان نكون حذرين عندما نتحدث عن دور المثقفين في هذا الاطار , على الرغم من ان بامكان المثقفين ان يضطلعوا بدور داخل المجتمعات المفتوحة وضمن الديمقراطيات الراسخة, كما يمكنهم ان يمارسوا دورا اكبر في المجتمعات التي تمر بالمرحلة الانتقالية .
فيما يتعلق باجهزة الاعلام , فانا اعتقد انه لابد من منحها الحرية ولكن لا يجوز ان نفسح لها المجال لكي تعمل على تنمية الافكار الشوفينية وعلى اشاعة الحقد والضغينة , والموازنة بين هذه المعادلة صعبة دون شك , اذن ينتظر من المثقفين ان يضطلعوا بدورهم الايجابي في المراحل الانتقالية , رغم احتمالات سعي البعض منهم الى تنمية التيار الشوفيني والمتطرف . ان حث الناس وتعبأتهم يمكن ان يكون سببا في اثارة مشاكل كبرى داخل المجتمعات ).

دور الاحزاب السياسية وظهور الفساد مع بدء المشروع الديمقراطي
البدء بمشروع البناء الديمقراطي يعني بدء الانعطافة داخل مجتمع كانت التوتوليتاريا تدير فبه دفة الحكم, وتجري فيه الان المحاولات لأن تتولى قوى وطنية وديمقراطية مقاليد الحكم,ما يعني تغيير هيكل المجتمع من الناحية الاقتصادية والسياسية والثقافية بالثقافة الديمقراطية واسس الاقتصاد الحر والتبادل السلمي للسلطة , ولكن ما يدعونا للملاحظة في هذا المشروع المعقد هو ان في هذه المرحلة المفصلية الكبيرة , تطبق الكثير من الديمقراطيات غير ان النظام الديمقراطي لا يترسخ , او كما يقول فؤاد زكريا في كتابه (المستقبل الحر ) يمكن انتاج الديمقراطية لكن لا يمكن انتاج النظام الليبرالي الديمقراطي .

ولهذا فاننا نرى وبدلا عن من ان تنتج لنا الانتخابات, الايجابيات فان تطبيق الديمقراطية على هذا النحو , نراه يتحول الى تهديد لمستقبل الحرية في تلك البلاد .

كما ان فرانسيس فوكاياما , هو الاخر يعتقد في كتابه ( نهاية التاريخ ) ان سقوط جدار برلين نهاية لتاريخ انتصار الديمقراطية الليبرالية, ويعتبر النظام الليبرالي اساسا للانتصار الديمقراطية , وهذا يعني تطبيق سيادة القانون و اسس الاقتصاد الحر وحقوق الملكية الخاصة .

ولان بداية مشروع البناء الديمقراطي يكون مع الاحزاب الموجودة داخل المجتمع , ولمتطلبات هذا التقرير اثرنا هذا السؤال مع هؤلاء المتخصصين وكان رد البروفيسور ايرا كوهين حول دور الاحزاب السياسية , على النحو التالي :
(شئنا ام ابينا فان وجود الاحزاب السياسية شئ حتمي كما ان الاحزاب السياسية هي السبب في تمركز السلطة كما يقول ماكس فيبر , ولكن ومع وجود الاحزاب السياسية , لا بد من تنمية ثقافة تحترم الديمقراطية تحترم الصراع , فعلى سبيل المثال هناك العديد من الاحزاب السياسية في امريكا , غير انها تتفق جميعا على بعض القيم والاسس وهذا يقطع الطريق على امكانية ظهور الدكتاتوريات او الحكومات الشمولية .ولكن لا يمكن ان نمارس هذا العمل في مجتمع يعيش في ظروف ثورية , أي انه يعيش حالة الثورة وبناء المجتمع الديمقراطي في ذات الوقت,كما هو الحال في ايران ).
في اجابته على هذا السؤال يميز البروفيسور كوهين وبشكل واضح جانبين مهمين وهما انتقال الثقافة الثورية الى ثقافة البناء الديمقراطي داخل البرامج السياسية للاحزاب .

حول المرحلة الانتقالية وظهور اشكاليات من هذا النوع يقول البروفيسور جورجي مورافي :
( من الواضح ان المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية ولأن متطلبات الديمقراطية غير مطبقة , ولأن برامج الاحزاب السياسية ليس ديمقراطية بالمعنى الكامل , فان المجتمع يكون عرضة لنوعين من المخاوف ، الاول, ظهور واتساع نطاق الفساد والخوف من الاستحواذ على السلطة بطريقة ديمقراطية من قبل قوى غير ديمقراطية , ولمجابهة هكذا حالة لا بد من ان يتعود الناس على الدفاع عن حقوقهم وان يصبحوا عامل ضغط للتقليل من مظاهر الفساد , ولابد من تقوية السلطة القضائية ايضا من اجل ان تمارس دورها في التصدي للفساد ).
ان البروفيسور مورافي يربط معالجة معوقات المرحلة الانتقالية بتربية الناس على الثقافة الديمقراطية وهذا يعني انتاج الفكر الحر والوعي الذاتي من اجل البدء بمشروع عقلاني واستمرار عملية التطور داخل المجتمع.
Top