• Saturday, 29 June 2024
logo

في مديح الاختصاص............حليم يوسف

في مديح الاختصاص............حليم يوسف
أتذكر جيدا صورة الأوربي الزائر الذي كان ينزل ضيفا أو سائحا في سورية. كان العثور على أحدهم بالنسبة لنا، نحن القادمون الجدد الى حلب للدراسة في جامعتها، صيدا ثمينا يقع بين أيدينا.
فيحدثه من يعرف الانكليزية بيننا قبل كل شيئ عن القضية الكردية في محاولة بطولية منا لتعريف هذا الضيف القادم من عالم آخر بعدالة هذه القضية واطلاعه على حجم المظالم التي يتعرض لها هذا الشعب المغلوب على أمره في هذه البقعة المهملة من العالم، المليئة بالظلم والقهر والاستبداد والاضطهاد الأرعن، والتي يسمونها الشرق الأوسط. ونبذل جهودا مضنية لتحقيق هذا الهدف النضالي العظيم، في اعتقاد منا بأن هذا الضيف الخارق على علاقة مؤكدة بقضايا الشعوب وتحررها وبأنه سيكون سفيرا لقضيتنا بعد اليوم، وبأنه بالتأكيد يفهم بالسياسة وبما أن الشعب عندهم يرسم سياسة بلدهم وهو أحد أفراد هذا الشعب، فاننا بذلك قد حققنا انجازا تاريخيا لقضيتنا العادلة ، التي تنتظر مؤازرة دول مؤثرة كدولة هذا الضيف المهم، الذي أرسله الله لنا كهدية من السماء لمساعدتنا في رفع الظلم عن كاهل شعبنا المسكين. فندلل الضيف ونقدم له أشهى طبق للطعام ونحتفل بوجوده بيننا ونشركه بأجمل رقصة كردية نعرفها، ويعود هوالى الفندق الذي حجزه لنفسه مرتاح البال ونعود نحن الى بيوتنا الطلابية الكئيبة التي استأجرناها بأبخس الأثمان.
والآن وبعد اقامتي لأكثر من أربعة عشر عاما في دولة أوربية ومعاشرتي اليومية للعشرات من أمثال ضيفنا العزيز ذاك، الذي جمعتني الصدفة به يوما، أتذكره وتنتابني مشاعر غريبة هي مزيج من الشفقة على ما كنا عليه هناك، والدهشة من التنظيم الدقيق لأمور حياتهم هنا، والحزن على بقاء الهوة الشاسعة بين هنا وهناك. وقد قادني هذا المثال الى الاعتقاد بأن الحلقة الضائعة التي كانت تخلق الوهم لدينا تجاه فهم الضيف والتعامل السليم معه هي قلة معرفتنا بطبيعة البنية السياسية والاجتماعية والادارية لأنظمة الحكم والادارة في الدول الأوربية وخاصة فيما يتعلق بموضوع الاختصاص. ففي بلادنا تجد الشخص نفسه يفهم في القانون وفي تركيب مجاري المياه وفي صنع الأبواب والشبابيك وفي فقه اللغة وفي تصليح السيارات وفي نقد الأدب وفي حلاقة الشعر وفي تحديد أدوية للمرضى، وبالاضافة الى كل ذلك يحترف السياسة، وقد يكون على أقل تقدير قياديا في أحد الأحزاب أو مستقلا يفهم السياسة أكثر من الحزبيين. في حين أن الحصول على فرصة العمل في أحد هذه المجالات السالفة الذكر يكون مستحيلا دون حيازة شهادة تعليمية في الاختصاص المعني بعد التخرج من احدى الجامعات أو المعاهد المختصة، أو الانتهاء من دورة مهنية واجتياز امتحاناتها المقررة بنجاح. حينها قد يستطيع الشخص المعني ايجاد فرصة عمل تمكنه من ادارة شؤون حياته اليومية. وان لجأت اليه لأمر خارج اختصاص عمله، فسيخبرك على الفور بأن هذا الأمر خارج اختصاص عمله، وأنه لا يفهم في هذا الأمر ولا يستطيع مساعدتك.

وان كان لطيفا ورائق المزاج فسيدلك على العنوان الذي يتوجب عليك أن تلجأ اليه. في حين أن السياسة تمارسها نخبة من المختصين الذين يكرسون حياتهم لهذا الأمر. كما أن اشغال منصب سياسي يعني فرصة عمل تبدأ وتنتهي بعقد مؤقت. في حين يشغل أحدنا المنصب السياسي بانقلاب أو بزحلقة أحدهم والالتفاف عليه، ولن ينتهي أمر العقد السياسي الا بعد تدخل عزرائيل. لست هنا بصدد المقارنة بين الوضعين، لكن الشيئ بالشيئ يذكر. ويذهب بي التخييل بعيدا أحيانا وينتابني شعور غامض بهذا الخصوص، ماذا لو حدثت معجزة والتزم كل واحد منا بحدود احتصاصه، دون التعدي على اختصاصات الآخرين؟. ألا يعتبر ذلك مساهمة مباشرة في التخفيف من أزماتنا المستعصية على الحل؟ قد يبدو تحقيق هذا الأمر ضربا من الخيال في ظل غياب نظام متماسك ينظم الحياة العامة للناس. ومع ذلك لا بأس من المحاولة، فليحاول كل منا من موقعه، ولنرى كيف تصبح الحياة أكثر جمالا. وبذلك يمكننا التعامل مع بعضنا ومع ضيوفنا أيضا بكثير من الواقعية وبقليل من الأوهام
Top