صواريخ عالية نصيف
يبدو أن النائبة في البرلمان العراقي عالية نصيف أرقتها مشكلة ضعف قيمة جواز السفر العراقي فراحت تبحث لها عن أسباب. ويبدو أنها بعد تفكير عميق وتمحيص وتتبع وتحليل "اكتشفت" أن احتواء الجواز على كلمات باللغة الكوردية هو سبب ذلك الضعف، فسارعت إلى مطالبة وزارة الداخلية العراقية بالعمل فوراً على تنظيف الجواز العراقي من الكلمات الكوردية كي يصبح جوازاً قوياً كما يجب. ولكي لا تحرم العراقيين من هذا "الاكتشاف" قامت النائبة قبل أيام بنشره على صفحتها الخاصة على النحو الآتي:
"ندعو الأخوان في وزارة الداخلية من اختصار الجواز العراقي على اللغة الإنجليزية والعربية ولا يجوز إدخال لغة غير معترف بها دولياً وهي هجين الفارسية وغير متداولة في كل أنحاء العالم وواحدة من ضعف الجواز العراقي وجود لهجة محلية والعراق البلد الوحيد يضع لغة غير حية وغير معترف بها والدستور العراقي أشار إلى استخدام الكوردية في المعاملات الرسمية الحكومية في الإقليم وليس تفرض على بلد عربي".
المستوى "الرفيع" للغة المنشور (كما هو واضح) لا يقل عن مستوى فكرته؛ فالسيدة تجمع كلمة الأخ على "الأخوان" بدلاً من الإخوان، وتقول "ندعو... من" بدلاً من "ندعو ... إلى"، وتستخدم كلمة "اختصار" بدلاً من "اقتصار" وتقول "اختصار ... على" بدلاً من "اختصار... إلى". وكل هذه الحالات لا تحتاج إلى مختصين في اللغة لأنها من بدهيات الكلام العربي السليم؛ فليس من عربي يقول مثلاً: ندعو من!!!. وعلى هذا أقول للسيدة النائبة إن الكوردية ليست "لهجة محلية" عراقية كما تدعين، بل لغة أصيلة من لغات شعوب المنطقة مثل العربية والفارسية والسريانية وغيرها. أما اللهجة المحلية فهي تلك التي كتبتِ بها منشوركِ الفذ والتي لا علاقة لها باللغة العربية الفصيحة الأصيلة والجميلة والمحبوبة.
تقول النائبة إن اللغة الكوردية "هجين الفارسية"، ولا تعلم أن صفة هجين تطلق على حالة تكون نتاج أصلين مختلفين؛ فالهجين من الإنسان والنبات والحيوان هو كل ما ينتج عن تزاوج صنفين أو نوعين أو سلالتين مختلفتين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللغة. ولا يمكن القول بأي حال إن هذا النبات أو الشخص أو الحيوان أو هذه اللغة هجين ذلك الأصل. والسؤال هنا: كيف يمكن لشخص يجهل أبسط تراكيب لغته المتداولة أن يسمح لنفسه بالبحث في أصل لغة أخرى؟!!. المفارقة أن السيدة نشرت النص باللغة الإنجليزية أيضاً كي يصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس لأهميته وعمقه وبلاغته!!.
إضافة إلى ركاكته اللغوية يعاني المنشور من ضحالة معرفية أيضاً، إذ تقول السيدة مثلاً إن الكوردية لهجة محلية وأنها "غير متداولة في كل أنحاء العالم"، علماً أن اللغة الكوردية متداولة في كل أنحاء العالم (مع أن هذا ليس شرطاً للكتابة بها على الجواز العراقي) وهناك جامعات ومعاهد في أماكن كثيرة تدرس اللغة والأدب الكورديين، كما أنها واحدة من اللغات المعتمدة في خدمات غوغل (العالمي) للترجمة وصارت مؤخراً كذلك واحدة من اللغات المعتمدة في مراسلات الواتس آب، على الرغم من أنه ليس كل لغات العالم متاحة في الخدمتين المذكورتين.
جهل السيدة بكل ما سبق ساقها إلى خطأ آخر بقولها إن "العراق البلد الوحيد يضع لغة غير حية وغير معترف بها". أولاً الجملة بحاجة إلى اسم موصول (الذي يضع)، وثانياً هل تعلم السيدة حقاً ما معنى اللغة الحية؟ فاللغة التي يتحدث بها أكثر من أربعين مليون من سكان الأرض ويدرس بها مئات الآلاف ويحصل المئات منهم على شهادات جامعية في مختلف الفروع والميادين العلمية والمعرفية وتصدر بها سنوياً مئات الكتب عن عشرات من دور النشر، هل هي في حسابات السيدة لغة ميتة؟!. الأهم من هذا، هل من تجهل في لغتها الأسماء الموصولة وحروف الجر وعلامات الترقيم (التي يخلو المنشور منها تماماً) تستطيع أن تميز بين لغة حية ولغة ميتة؟. السيدة هنا تقع في تناقض آخر ساذج؛ فهي تقول مرة إن الكوردية "لهجة محلية" ومرة أخرى إنها "لغة غير حية". وهذا يعني أنها لا تعلم الفرق بين اللغة واللهجة.
تقول النائبة أيضاً "والدستور العراقي أشار إلى استخدام الكوردية في المعاملات الرسمية الحكومية في الإقليم وليس تفرض على بلد عربي". بحضور الركاكة اللغوية كالعادة يبدو أن السيدة لا تعرف حتى الدستور الذي تمثله والذي أوصلها إلى البرلمان والذي تدعي أنها تدافع عنه؛ فالدستور العراقي ينص في المادة (4) منه على ما يلي:
"أولاً ـ اللغة العربية واللغة الكوردية هما اللغتان الرسميتان للعراق...
ثانياً ـ يحدد نطاق مصطلح لغة رسمية، وكيفية تطبيق أحكام هذه المادة بقانون يشمل:
أ ـ ... ب ـ ... ج ـ الاعتراف بالوثائق الرسمية والمراسلات باللغتين وإصدار الوثائق الرسمية بهما". فهل جواز السفر في حسابات النائبة ليس من الوثائق الرسمية التي يشير إليها الدستور في الفقرة السابقة أم أنها تتحدث عن دستور خاص بها وبأفكارها؟؟!!
علق الخبير القانوني الدكتور طارق حرب على التناقض بين دعوة النائبة تلك والمادة السابقة من الدستور العراقي قائلاً : "إن المطالبة بحذف اللغة الكوردية من الجواز العراقي هي مطالبات ذات أبعاد سياسية وليست دستورية أو قانونية وتلك المطالبات مرفوضة لكونها تولد التباعد والخلاف بين أبناء الشعب العراقي". وهكذا تخالف النائبة الدستور العراقي، أولاً بمطالبتها بإزالة الكلمات الكوردية (التي أجازها الدستور) من الجواز العراقي، وثانياً بقولها إن الدستور يقصد العمل باللغة الكوردية فقط داخل إقليم كوردستان، علماً أنه يقصد كل العراق. وبذلك تقوم عمداً بتشويه نص الدستور لأهداف شخصية وسياسية.
تقول السيدة إن "واحدة من ضعف الجواز العراقي وجود لهجة محلية". بهذه الصياغة الضعيفة تعبر نصيف عن فكرتها الرئيسة في هذا المنشور؛ فهي ترى أن أحد أسباب ضعف جواز السفر العراقي هو كتابته باللغة الكوردية إلى جانب العربية. إن هذا أغرب ما يمكن أن يفكر به المرء في هذه الحالة؛ فقوة جواز السفر لأية دولة لا تقاس باللغة التي يكتب بها، بل بجملة أسباب وعوامل ومقومات تجهلها أو تتجاهلها عالية نصيف. أما الأسباب والعوامل الحقيقية لضعف قيمة الجواز العراقي والتي لم تذكر منها السيدة النائبة شيئاً فإنني أتوجه لها بالكلام لأخبرها ببعض منها إن كانت لا تعلم.
الجواز العراقي ضعيف يا سيدة نصيف لأنكم سلختم صفة الدولة عن العراق وجردتموه من حكم المؤسسات وجعلتموه محكوماً من جماعات وميليشيات.
الجواز العراقي ضعيف لأن زعيم ميليشيا يستطيع أن يهدد رئيس الحكومة بقطع أذنيه دون أن يتعرض لأية محاسبة.
الجواز العراقي ضعيف لأن الميليشيات تقصف السفارات والقواعد العسكرية والمطارات العراقية وكأنها تمارس لعبة البلاي ستيشن دون أن تجرؤ الحكومة على محاسبتها.
الجواز العراقي ضعيف لأن معلمك سلم ثلث العراق لداعش وتسبب بقتل آلاف العراقيين وبانهيار أمن الدولة واقتصادها وتمت مكافأته بمنحه منصب نائب الرئيس ويرشح نفسه الآن لرئاسة الحكومة من جديد.
الجواز العراقي ضعيف بسبب غياب الأمن والأمان وارتفاع معدلات البطالة وأعمال القتل والخطف والسرقة وتدني قيمة الدينار.
الجواز العراقي ضعيف لأنه يخص دولة تذهب مئات المليارات فيها إلى جيوب الفاسدين، بينما يعيش مواطنوها محرومين من أبسط الخدمات مثل الماء والكهرباء والسكن وتنظيف الشوارع وتوفير فرص العمل.
الجواز العراقي ضعيف لأنكم جعلتم العراق الذي ينام على بحر من النفط يحتل المراتب الأولى على مستوى العالم بنسب الفساد والبطالة وغياب القانون ويحتل المرتبة 108 بين دول العالم على مستوى معدل الدخل السنوي للفرد ولا يتقدم إلا على دول مثل أفغانستان والصومال.
الجواز العراقي ضعيف لأن العراق يأتي في المرتبة الثانية بين الدول الأكثر تضرراً من أعمال العنف والتفجيرات.
الجواز العراقي ضعيف لأنكم كتبتم الدستور ثم وضعتموه في الأدراج لتحكموا بما ما يوافق هواكم.
الجواز العراقي ضعيف لأنكم أطلقتم عشرات الصواريخ على جزء من شعبكم بغية هدم ما بناه في سنين وإعاقة تقدمه، وتطلقون عليه آلاف الصورايخ من النوع الذي جاء في منشوركِ بغية تحطيمه نفسياً ومعنوياً وكسر إرادته ولأغراض سياسية وانتخابية.
تلك هي بعض الأسباب التي أضعفت من قيمة الجواز العراقي يا سيادة النائبة. فهل تريدين مع كل تلك الفوضى أن يكون الجواز العراقي بمنزلة الجواز البريطاني والألماني والأمريكي والسويدي والإماراتي مثلاً؟. أما إذا كنتِ ما تزالين مصرة على رأيك فاعلمي أن الذي أضعف الجواز العراقي ليس احتواؤه على كلمات باللغة الكوردية، بل جهلك بحروف الجر وعلامات الترقيم في اللغة العربية!!.
باسنيوز