• Thursday, 19 December 2024
logo

هدوء وإنصات…الكورد وحق تقرير المصير

هدوء وإنصات…الكورد وحق تقرير المصير

د.محمد العرب

 

حق تقرير المصير يُعتبر واحداً من أقدم وأبرز المبادئ التي أسستها الإنسانية ضمن مسيرتها الطويلة نحو الحرية والعدالة ، هذا الحق يتجاوز كونه مبدأً قانونياً دولياً إلى كونه فكرة تعكس إرادة الإنسان في التحكم بمصيره واختيار شكل حياته الجماعية ، حين نتأمل في قضية الكرد، هذا الشعب الذي يمتد وجوده عبر آلاف السنين، نجد أن حق تقرير المصير بالنسبة لهم ليس مجرد مطلب سياسي، بل هو سؤال وجودي يعكس طبيعة علاقتهم بالحدود الجغرافية والهويات الوطنية التي تشكلت بفعل الصراعات التاريخية والتدخلات الخارجية.

الكرد، كأمة عريقة، لهم جذور تاريخية تضرب في عمق منطقة الشرق الأوسط. يمتد وجودهم عبر أراضٍ تشمل أجزاءً من تركيا، إيران، العراق، وسوريا، بالإضافة إلى أقليات متفرقة في دول أخرى. مع انهيار الإمبراطوريات الكبرى في القرن العشرين، خصوصاً الدولة العثمانية، وُعد الكرد بتأسيس دولة خاصة بهم بموجب معاهدة (سيفر) عام 1920. لكن هذا الحلم لم يتحقق بسبب استبدال تلك المعاهدة بمعاهدة لوزان عام 1923، التي أهملت الوعود السابقة وكرّست تقسيمهم بين أربع دول رئيسية.

التقسيم الجغرافي للكرد لم يكن جغرافياً فقط، بل حمل معه انقسامات سياسية وثقافية أيضاً ، إذ سعت الحكومات المركزية في الدول الأربع إلى طمس الهوية الكردية عن طريق سياسات التهميش، القمع، وفرض الهويات القومية الأخرى. في ظل هذه الظروف، ظهر حق تقرير المصير كحق ثابت، لكنه ظل يواجه عقبات سياسية واقتصادية وقانونية عميقة.

من الناحية القانونية، يعتبر حق تقرير المصير من المبادئ الثابتة في القانون الدولي، وقد أُدرج في المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على حق الشعوب في تقرير مصيرها دون تدخل خارجي. كما أكد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على هذا الحق، مشيرين إلى ضرورة احترام إرادة الشعوب في اختيار نظامها السياسي والاجتماعي بحرية.

بالنسبة للكرد، فإن مطالبتهم بحق تقرير المصير ليست مجرد مطلب سياسي، بل هي تجسيد لحقهم الطبيعي في الوجود والتعبير عن هويتهم الجماعية. الكرد يعانون من تهميش مزدوج: أولاً ، كأقلية داخل الدول التي يعيشون فيها، وثانياً ، كأمة تسعى للاعتراف الدولي بوجودها. حق تقرير المصير بالنسبة لهم يرتبط بحقوق أساسية، مثل حقهم في الحفاظ على لغتهم، ثقافتهم، وتاريخهم.

لكن السؤال الذي يطرحه البعض هو: هل تقرير المصير للكرد يعني الانفصال وتأسيس دولة مستقلة؟ الجواب هنا يتنوع حسب الظروف السياسية والجغرافية. في العراق، مثلاً ، يتمتع الكرد بحكم ذاتي في إقليم كردستان، وهو نموذج يمثل تقرير المصير الجزئي دون الانفصال. بينما في تركيا وسوريا، لا يزال الحق محصوراً في النضال من أجل الاعتراف السياسي والثقافي.

تقرير المصير الكردي يواجه تحديات سياسية عميقة تتجاوز إرادة الكرد أنفسهم. فمن جهة، هناك مصالح دولية وإقليمية معقدة تجعل من إقامة دولة كردية مستقلة تهديداً لنظام الشرق الأوسط الحالي بحسب وجهة نظر الدول العظمى  ، ومن جهة أخرى، فإن الدول التي تضم الكرد تعتبر أي محاولة لتقرير المصير تهديداً لوحدتها الوطنية.

مع ذلك، فإن الكرد أثبتوا أنهم قادرون على إعادة تشكيل دورهم السياسي عبر استراتيجيات جديدة. في العراق، نجحوا في بناء إقليم يتمتع بحكم ذاتي ويمثل نموذجاً لحل سياسي قائم على التفاوض. في سوريا، ظهرت الكانتونات الكردية ككيانات شبه مستقلة خلال ايام حكم حزب البعث ، هذه الأمثلة تعكس أن تقرير المصير ليس بالضرورة يعني الانفصال المباشر ، بل يمكن أن يتم عبر ترتيبات سياسية تحقق مصالح الجميع اولا 

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض القوى الدولية والإقليمية تستغل القضية الكردية لتحقيق أجنداتها. هذه الاستغلالات تعقّد الموقف الكردي، وتجعل من تقرير المصير معركة مزدوجة: واحدة ضد السلطات المركزية، وأخرى ضد تدخلات الخارج.

الفلسفة الكامنة وراء تقرير المصير للكرد هي فلسفة الحرية والعدالة. الكرد، كشعب له تاريخه وثقافته ولغته، يستحقون أن يُسمع صوتهم، وأن تكون لديهم القدرة على تقرير شكل وجودهم. لكن هذا الحق يواجه عقبات سياسية وقانونية تجعل تطبيقه يبدو مستحيلًا في بعض الأحيان.

رغم ذلك، فإن التاريخ يعلمنا أن الحقوق لا تُمنح، بل تُنتزع بالنضال والصبر. الكرد، كما أثبتوا عبر العقود، يمتلكون من الإرادة ما يكفي لمواصلة سعيهم نحو تقرير المصير. سواء تحقق هذا الحق عبر دولة مستقلة أو من خلال الحكم الذاتي، فإن الكرد سيظلون مثالا  حياً على صمود الشعوب في وجه القمع والحرمان.

ختاماً ، حق تقرير المصير للكرد ليس مجرد مطلب سياسي، بل هو سؤال وجودي يعكس نضال أمة كاملة من أجل الحفاظ على هويتها وتاريخها. في عالم يعج بالصراعات والمصالح، يبقى هذا الحق ثابتاً كرمز للحرية والعدالة، مهما بدت التحديات أمامه. الكرد ليسوا مجرد أرقام في خرائط التقسيم الجغرافي، بل هم روح الشرق الأوسط التي تسعى لأن تجد مكاناً عادلاً لها في تاريخ الإنسانية.

 

 

 

كوردستان24

Top