إيران.. من دور المنقذ إلى الخطر الداهم
غالباً ما تثير التحوّلات السياسية الكبرى في مواقف الدول، العديد من الأسئلة المفصلية، بل ربما ما توجب أكثر من ذلك، وأعني مراجعات عامة ومعمّقة للأسباب الكامنة خلف تلك التحوّلات وتداعياتها على الأمن العام سواءٌ في منطقة محددة أو في محيط إقليمي عام.
لعل التحوّل السياسي الأكثر إثارة في الثلث الأخير من القرن العشرين كان وصول الخميني إلى السلطة في إيران 1979، بحلّة مغايرة تماماً لسلطة شاه إيران، وبهويّة واضحة المعالم، إذ لم يطرح الخميني نفسه – آنذاك – على أنه قائد وطني يحمل برنامجاً تنموياً أو إصلاحياً يخص إيران وحدها، بل جاء كقائد إسلامي يسعى إلى النهوض بالأمة الإسلامية من حالة التبعية والتخلف والانقياد، إلى حالة البناء وامتلاك أسباب القوة، ومن ثم الانطلاق نحو آفاق أخرى لا أحد يعرف حدودها النهائية.
كما لم يخف النظام الجديد في طهران ماهيته المذهبية، فإعلانه عن اعتماد مبدأ (ولاية الفقيه) يجعل من الخميني إماماً مطاعاً لدى جميع أتباعه الشيعة في العالم، كما يجعل قراراته وطموحاته فوق الدولة وأنظمتها وقوانينها، ذلك أنه يحمل مشروع ثورة، والثورة هي فعل هدم وتأسيس بآن معاً.
وبالفعل لم تكن التجسيدات العملية متأخرة عن معالم المشروع الإيراني الجديد، فالثورة الخمينية ينبغي ألّا تبقى حبيسة الجغرافية الإيرانية، بل لعلّ فكرة تصدير الثورة كانت الضامن لنجاح الثورة داخل إيران وفقاً للخميني الذي لم يتأخّر في العمل على إعادة تشكيل أو هيكلة حزب الدعوة من جديد في العراق، وتقوية ذراعه المسلّح، وفي خطوة لاحقة فيما بعد، أوجد ذراعاً له في لبنان (حزب الله)، وعلى مستوى الخطاب السياسي، كان يكفي الخميني إعلانه العداء لإسرائيل وحليفتها أميركا (الشيطان الأكبر) حتى يزيد من زخم الخطاب الإيديولوجي من جهة، والاستحواذ على مشاعر سائر العرب والمسلمين من جهة أخرى.
وعلى الرغم من المواقف المرتابة للعديد من الأنظمة العربية والقوى السياسية من النظام الإيراني الجديد آنذاك، إلّا أن مواقف الاغتباط والترحيب والتأييد لثورة الخميني كانت هي الطاغية، أو يمكن القول: إن عنفوان الخطاب السياسي للخميني آنذاك استطاع أن يخفي معالم النزوع القومي والإيديولوجي في السياسة الإيرانية، فالإسلاميون وجد معظمهم في خطاب الخميني تجسيداً لحلمهم المغدور بنهضة الأمة وسيادة الإسلام على العالم، والقوميون وجدوا فيه نصيراً لقضيتهم المركزية (فلسطين)، وربما وجد فيه بعض اليساريين عدوّاً مشتركاً لهم للإمبريالية المتمثلة بالهرم الأميركي آنذاك.
أمّا المرتابون من ثورة الخميني فقد وجدوا أنفسهم في حرج، فهم – من جهة – لا يستطيعون الوقوف أمام الشعور الثوري الجارف الذي يحمله خطاب إيران السياسي المنادي بالقضاء على إسرائيل وتحرير القدس، ومقاومة الهيمنة الإمبريالية الأميركية على العرب والمسلمين، وهم – من جهة أخرى - إن فعلوا ذلك، فسوف يكونون محطّ سخط الشارع العام، فضلاً عن رميهم في صف الرجعية المهادنة لإسرائيل والغرب على وجه العموم.
ولكنّ المواقف المرتابة لا يمكن أن تبقى في حدود ارتيابها أو تحفّظها، حين تشعر بالخطر، وقد بدأت تظهر بوادره شيئاً فشيئاً، بل لا بدّ من القيام بخطوة إجرائية وقائية، إذ لا تقبل أي دولة من جوار إيران أن تكون أولى ضحايا الثورة الخمينة، وهكذا كان العراق كبش فداء، كونه صاحب أول خطوة وقائية قام بها في مواجهة المدّ الإيراني، وذلك بعد أن استنفدت بغداد كل الوسائل الدبلوماسية من خلال إرسالها العشرات من الشكاوى والرسائل إلى الأمم المتحدة، والتي تشرح فيها تجاوزات طهران الأمنية على المدن والبلدات العراقية، لكن يبدو أن قرار الحرب أو حتمية المواجهة العسكرية هو الأمر الذي فرض نفسه.
استمرت الحرب العراقية الإيرانية ثماني سنوات ( 1980 – 1988 ) وانتهت بترحيب العراق الذي كان يطالب بوقف الحرب منذ الأيام الأولى لنشوبها، بينما كان قرار وقف الحرب بالنسبة إلى إيران، أصعب من (تجرّع كأس السمّ) على حدّ تعبير الخميني.
مما لا شكّ فيه، أن المواقف الدولية، وخاصة العربية والإسلامية، من تلك الحرب آنذاك، تجسّد إلى حدّ بعيد، طبيعة الاستراتيجيات والمواقف السياسية حيال دولة إيران – الخميني – إذ إن الخطوة ( الوقائية ) التي قام بها العراق، كانت موضع إدانة واسعة على المستويين العربي والإسلامي، فضلاً عن كونها موضع إدانة أيضاً من جانب العديد من القوى والتيارات السياسية العربية والإسلامية بكل أشكالها، وقد استندت هذه الإدانات إلى مبررات شتى، يمكن إيجازها بما يلي:
1 – إعلان الحرب على إيران هو اعتداء على دولة تحوّلت – بفضل ثورة الخميني – من دولة ربيبة لأميركا والصهيونية، إلى دولة صديقة مناصرة للحقوق العربية والإسلامية.
2 – إعلان الحرب على إيران هو استنزاف لطاقات الثورة الإسلامية، وحرْفٌ لمسار المعركة الأم في مواجهة إسرائيل والصهيونية.
3 – الدخول في مواجهة عسكرية مع إيران هو استنزاف لطاقات العراق البشرية والاقتصادية، وتفريط كبير بطاقات الشعب العراقي، وتسخيرها في مسار لا يخدم إلّا النظام العراقي الذي لا يمكن له القيام بتلك الحرب لولا دفعه من جانب الجهات الدولية الغربية المناهضة للثورة الإسلامية الخمينية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
لقد تترجمت تلك الإدانات بأشكال شتى، تتراوح بين الموقف الإعلامي، مروراً بالمواقف السياسية المنحازة لإيران، وانتهاء بالدعم العسكري والسياسي المطلق ( سوريا – ليبيا حتى نهاية العام 1986). أمّا الدول المرتابة من نظام إيران الجديد (دول الخليج العربي) فكان خيارها الوحيد هو الوقوف مع العراق في تلك الحرب، ليس تناغماً سياسياً أو تجانساً إيديولوجياً مع النظام العراقي، ولكنها الضرورة الأمنية التي باتت ترجمتها واضحة آنذاك: إن استطاع الخميني اختراق حاجز الصد العراقي، فسوف تكون دول الخليج هي المسرح الآخر لتجليات الثورة الإيرانية.
ما هو جدير بالإشارة إليه، هو أن المواقف الرسمية المُعلنة والمتبادلة بين إيران وخصومها من الدول، كانت تخفي فصلاً مغايراً لما هو في العلن، فالشيطان الأكبر الأميركي كان محظياً بهدية ثمينة تلقاها رونالد ريغن في أيامه الأولى من الدخول للبيت الأبيض، وهي مجموعة الرهائن الأميركيين لدى إيران، وكان على الجانب الأميركي ردّ الجميل بغض النظر عن السلاح المتدفق من إسرائيل إلى إيران ( إيران كونترا).
استطاعت إيران خلال السنوات التالية من تقوية أذرعها في أكثر من دولة عربية، لبنان – فلسطين – العراق – سوريا – كما استطاعت تعزيز خطابها القديم الجديد، ذي المحتوى المقاوم لإسرائيل والصهيونية وأميركا، والممانع لعمليات أي تقارب تجاه إسرائيل، ولم تكن مواقف جمهور إيران من العرب والمسلمين حيال أذرع إيران، تختلف عن موقفها من الجمهورية الإسلامية الإيرانية ذاتها، إذ إن حزب الله في لبنان ظل رأس حربة للمقاومة حتى عام 2011، وما تزال حركة حماس الفلسطينية تحظى بشعبية كبيرة في الوسط الإسلامي واليساري الموالي لتيار الممانعة حتى الآن. أضف إلى ذلك أن إيران أصبحت قوة إقليمية كبرى دون منازع بعد العام 2003، أي بعد الاحتلال الأميركي للعراق وتسليمه كاملاً لإيران.
يمكن التأكيد على أن التبدّل الذي طرأ على صورة إيران في أذهان ومخيلة معظم القوى والكيانات والدول، إنّما جاء تالياً لثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، وليس بفعل الإرهاصات السياسية لتلك الثورات فحسب، بل بفعل كشوفاتها المعرفية التي انبثقت من واقع الشعوب، وليس عن الاحتياجات الأمنية للأنظمة القائمة.
ثمة صورتان لإيران، متناقضتان جذرياً، إيران الثورة التي جاءت لتعيد تشكيل الواقع بما يخدم، ليس مصالحها فحسب، بل مصالح العرب والمسلمين أيضاً، إيران التي بشّرت بإنصاف قضايا الشعوب المظلومة ودعم صمودها في مواجهة ظالميها، وكذلك إيران التي حدّدت مواجهتها الأساسية تجاه قوى الاحتلال الأجنبية في المنطقة، وتحرير الشعوب اقتصادياً وعسكرياً وتنموياً، فضلاً عن أن سقف العنتريات الإيراني فيما يخص القضايا العربية، كان متجاوزاً جداً للخطاب الرسمي العربي المُصنَّف حينذاك بـ (الخطاب المعتدل). إلّا أن ما لا يمكن نكرانه في اللحظة الراهنة، هو أن الترجمة الفعلية لسياسات إيران تجد تجلياتها بقتل مزيد من الشعوب في سوريا ولبنان والعراق واليمن، ودعمها المطلق بكل الوسائل لنظام الإجرام الأسدي الذي يصرّ على البقاء في السلطة ولو على جماجم السوريين، وكذلك الدعم المطلق لحزب الله الذي لم يتوان عن ترويع اللبنانيين وتقويض أي محاولة يسعى من خلالها الشعب اللبناني نحو بناء دولته المستقرة الآمنة، بل لم يخف حزب الله، على لسان زعيمه الحالي، عن هدفه الرامي إلى إلحاق لبنان بدولة الولي الفقيه، أضف إلى ذلك التحكّم الإيراني الكامل بكل مفاصل الدولة العراقية اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، بل ما يمكن الجزم به، هو أن إيران هي إحدى الكوابح الحقيقية لثورات الربيع العربي، وإحدى القوى العميقة المناهضة لثورات الشعوب في المنطقة العربية، فضلاً عن كون الشعب الإيراني بالذات هو أولى ضحايا نظام ملالي إيران. وثمة كثيرون ممن كانوا يعوّلون على إيران في تحرير فلسطين، باتوا يعتقدون اليوم، أن الخطر الإيراني لا يقلّ كارثيةً عن الخطر الإسرائيلي.
ولعلّ الأهم من ذلك كله، هو أن هذا التبدّل المباغت في صورة إيران لدى أنصارها في الأمس، وأعدائها اليوم، هو بالقطع، ليس نتيجة تغيّرات جذرية طارئة في السياسات الإيرانية، ذلك أن السياسة الإيرانية هي هي لم تتغيّر، وهل أنكرت إيران منذ عهد الخميني وحتى الوقت الحاضر رغبتها أو هدفها في قيادة العالم الإسلامي، أم هل تنكرت إيران لفكرة تصدير الثورة التي تتمثل بالنزوع الدائم نحو الهيمنة والتدخل في شؤون الدول والرغبة في التحكّم المطلق بمصائر ومقدرات شعوب المنطقة؟ ولكن ما يمكن أن يكون صحيحاً هو أن مبعث التبدّل هو في تشكيلات الوعي لدى معظم القوى العربية والإسلامية التي ظلت راكنة بالاستجابة طيلة عقود للمخدّر الإيراني، فضلاً عن المصالح ما دون الوطنية، بله القومية، التي كانت بمثابة البوصلة التي توجه سلوك وسياسات تلك القوى. لعل ما هو مؤسف ومثير للغرابة، أن هذا الوعي البائس الذي كان أحد العلائم المميّزة في مرحلة هي غاية في البؤس أيضاً، يحاول إقناع الجميع بأن مجرّد تغيير الخطاب، كفيل بتغيّر الوعي، أو تجديده، ولكن هيهات هيهات.
باسنيوز