من يسرق من؟
خلال عقود طويلة سبقت عام 1991، كان الشعب الكوردي يتعرض لحملات عسكرية استخدمت فيها احدث الاسلحة لقتل الكورد وحرق مدنهم وقراهم ومزارعهم، رافق ذلك حرمانهم من البناء والتعمير، حيث كان محرماً منحهم اية اجازة بناء ولو غرفة داخل البيت او فوق سطحه، لهذا بقيت المدن الكوردية، وخاصة أربيل والسليمانية ودهوك، مثل بلدات صغيرة، الا ما "يتكرم" النظام ببنائه من بعض المؤسسات هنا وهناك وبما يخدم مصالحه.
بعد انتفاضة 1991، حيث استقل إقليم كوردستان عن الحكم المركزي ببغداد، بدأت المدن الكوردية تتنفس الصعداء شيئاً فشيئاً، وبالرغم من شحة الموارد المالية، استطاعت الحكومات الكوردية وضع خطط البناء والتعمير، وبدأت المدن الكوردية واقضيتها وقراها بالتوسع تدريجياً حتى تغيير النظام العراقي في 2003 والاعلان عن قيام اقليم كوردستان شبه المستقل دستوريا وتخصيص جزء من ميزانية العراق لهذا الاقليم، بما يتناسب مع عدد سكانه ومساحته وحجم الظلم الذي تعرض له على مدى عقود طويلة.
ومن حسن حظ الكورد، وقتذاك، ان يترأس حكومة اقليم كوردستان، مع انطلاقته الجديدة، نيجيرفان بارزاني، الشاب الذكي والوطني والواعي بمحنة شعبه والمنتمي لأرضه وأهله، والعاشق للبناء والاعمار، والاهم من هذا وذاك انه ينحدر من عائلة قادت النضال عبر سنوات طويلة ضد حكومات متتالية وقاتلت وضحت بالكثير من رجالها ونسائها من اجل القضية الكوردية.
كان نيجيرفان بارزاني قد قرر وخطط مع فريق من البناة المخلصين لأن يكون إقليم كوردستان في مقدمة مدن العراق والعالم العربي وأن يضعه في صدارة خارطة العالم عمرانياً وعلمياً واجتماعياً وثقافياً، وان يستفيد من امكانيات الاقليم الجغرافية وحاجته للبناء، فشرع افضل قانون للاستثمار في العراق مما جذب ذلك رؤوس أموال محلية وعربية ودولية، رافق كل هذا أكتشاف النفط كثروة طبيعية تم استخدامها باحسن الأساليب لنهوض الاقليم بأفضل ما يكون.
لم تعتمد حكومة اقليم كوردستان على الميزانية المخصصة قانوناً ودستورياً لها والبالغة 17 بالمائة، مع ان الاقليم لم يستلم منها سوى 11 بالمائة، حتى 2014 حيث تم قطع الميزانية تماماً، ومعاقبة الشعب الكوردي بسبب قرارات حكومته وبرلمانه المستقل غير الخاضع للمساومات السياسية، ومع ذلك استمرت عجلة البناء بالتقدم الى امام ولم يرضخ الكورد لمحاولات الابتزاز السياسي التي كانت وما زالت، تفرض من قبل بعض الاحزاب الشيعية وقادتها مستغلين موضوع الميزانية ورواتب موظفي الاقليم وسيلة رخيصة في ذلك.
على مدى 18 عاماً من البناء والاصرار على التقدم كبر إقليم كوردستان وتطور عمرانه وعظمت انجازاته، على العكس من بقية مدن العراق الوسطى والشمالية والجنوبية، بما فيها العاصمة بغداد، حيث تراجعت وتعرضت للخراب وغابت عنها ابسط مواصفات المدينة، مما دفع بالعراقيين، ومنذ 2011 وحتى اليوم، للتظاهر والاحتجاج بسبب سوء الخدمات وغياب فرص الحياة الكريمة، مطالبين بمحاربة الفساد وتوفير ابسط ظروف الحياة المناسبة.
لقد قارن العراقيون بين العمران والتقدم الذي يشهده الاقليم وبين خراب محافظاتهم بسبب الفساد المالي، حيث ضاعت الميزانيات الضخمة المخصصة لبقية المحافظات العراقية في أرصدة المسؤولين الذين تركوا مدن الوسط والجنوب عرضة للخراب، وبدلاً من ان يعترف قادة الاحزاب الشيعية بفسادهم وينتبهوا الى محافظاتهم ليعيدوا اعمارها، ابتدعوا كذبة هزيلة مفادها ان الكورد يبنون اقليمهم من اموال نفط البصرة، ولهذا بقيت محافظات الوسط والجنوب خربة! هذه الكذبة الهزيلة التي ينساق خلفها بعض المطبلين والمغيبين بدت مثل نكتة مرة وسوداء، فكيف يمكن للكورد سرقة اموال نفط البصرة وبقية المناطق العراقية وهو (النفط) تحت سيطرة احزاب الفساد التي تسرقه ومنذ 17 عاماً وتسيطر على المنافذ الحدودية.
تؤكد التقارير الحكومية والدولية بأن أكثر من ألف مليار دولار، اكرر ذكر الرقم لضخامته، أكثر من ألف مليار دولار دخلت الى خزينة العراق منذ 2003 وحتى اليوم، منها 900 مليون دولار فقط خصصت لاقليم كوردستان، أي أن مما نسبته 90 بالمائة خصصت لباقي مناطق العراق، و10 بالمائة لاقليم كوردستان، يضاف الى ذلك واردات المنافذ الحدودية التي لا يذهب سوى 5 بالمائة منها الى خزينة الدولة والباقي تتقاسمه الاحزاب والميلشيات المسلحة، واذا اردنا ان نجري مقارنة منطقية فان المحافظات العراقية بألف مليار دولار كانت ستتحول الى اروع واجمل مدن العالم، والمواطن العراقي كان سيعيش كمترف وكرامته مصانة، لكن هذه المليارات تمت سرقتها وتحولت الى حسابات في أرصدة المسؤولين العراقيين في البنوك الخارجية، وما زالت عمليات السرقة مستمرة، بينما استطاع الكورد ان يبنوا اقليمهم بجزء بسيط للغاية من هذا المبلغ الضخم للغاية.
السؤال الراهن هو، من يسرق من؟ ومن سرق من؟ بالتأكيد ان المسؤولين الذين حكموا العراق على مدى اكثر من 17 عاماً هم من سرقوا أموال الشعب وأحالوا مدن العراق الى خراب، وان على الجمهور الشيعي، خاصة، ان يسأل قادة احزابه والمسؤولين عن حكم محافظاتهم عن تلك السرقات، فالكورد براء من هذه التهم براءة الذئب من دم يوسف.
روداو