• Sunday, 25 August 2024
logo

لمّا جاء الكورد!

لمّا جاء الكورد!
سیروان رحیم



كنا ننتقل من دار في قسم من مدينة كولن إلى أخرى في قسم آخر من المدينة.

ولنقل مقتنياتنا، استأجرت سيارة حمل. سائق السيارة عربي شيعي من النجف، يعمل في النقل والشحن وله خبرة في هذا المجال.

جاء ومعه شخص آخر، شاب نشط ولا مشكلة عنده في مجال التحميل.

عمل معي هذان الشخصان نصف نهار وخففا عني، وقبل أن أحاسبهما وأدفع لهما أجرهما ذهبنا إلى مقهى لشرب القهوة وتناول بعض المثلجات.

الرجل النجفي متعب ولا يبدي إلا القليل من الميل للخوض في أحاديث.

لكن الشاب النشط يواصل الحديث ويطرح بين الحين والآخر أسئلة، فسأل:

من أين أنت؟ وأين ولدت؟

أجيبه: من كركوك. ولدت في كركوك.

سأل بوجه متجهم: كركوك؟ أين؟ في أي حي؟ فأنا أيضاً من كركوك وقد ولدت ونشأت فيها.

قلت له: من كركوك، من حي زيويه.

فقال متعجباً غير مصدق: زيويه؟ أنا ابن كركوك، وليس في كركوك حي بهذا الاسم.

وعندما سألته: وأنت؟ هو من حي الحرية. سألته: وهل ولد أبواك أيضاً في كركوك؟ هل هما أيضاً من كركوك؟

يقول الشاب: لا، هما في الأصل من قرية قريبة من السماوة، جيء بهما بقرار من الدولة في مطلع الثمانينات إلى مدينة كركوك.

بعد هذه الإجابة، اتضح لي كيف أصبح هذا الشاب "ابن كركوك" وكيف أصبح يعتبر المدينة مدينته.

ولد ذاك الشاب في حي الحرية بكركوك ويعيش الآن لاجئاً في ألمانيا، لكن عائلته مازالت هناك وتعيش في نفس الحي بكركوك.

مازال الشاب يبحث عن "زيويه" ولا يصدق أن في المدينة حياً كهذا أو كان موجوداً فيها حتى.

يطلب مني أن أروي له ذكرياتي، ذكرياتي في كركوك، لكي يقص هو ذكرياته علي.

أقول له: نحن كالكثيرين من المحيطين بنا، وأصدقاء الطفولة والمتشاركون في اللغة، نحمل ذكرى واحدة كبيرة ومؤلمة، ذكرى تصغر في عينها كل ذكريات المدينة الأخرى بحيث لا تستطيع أن تدق على شباك الذاكرة. ذكرى واحدة، هي "الطرد".

لقد طردونا ولم يسمحوا لنا بالعودة إلى كركوك مرة أخرى. ولدت في حي زيويه، وهو حي بين آزادي وإمام قاسم وأغلب سكانه من الطبقة الفقيرة. مازال زيوية من الأحياء القديمة في كركوك. لكن عندما جرى طردنا، لم يكن في كركوك حي اسمه الحرية. حي "الحرية" كان من إنتاج البعث. هم، أي البعث بنوا ذلك الحي.

مواجهة غريبة وكأنها مشهد في فلم أسطوري حزين، طريد ووافد على كركوك، وأين؟ يجتمعان في كولن الألمانية.

"أنا ابن كركوك، وليس في كركوك حي بهذا الاسم، باسم زيويه". هذا التعبير للشاب أدى إلى انطلاق شرارة ذكرتني بفترة قصيرة من طفولتي، تذكرت مدرستي آشتي وبيرة ميرد، وكباب رضا كبابجي، ومقهى عاشور وآزادي، ولعبة المحيبس في ليالي رمضان، ومحل الدراجات الهوائية في الإسكان وزيوية، وبيوت خالاتي وعماتي في الشورجة وفي زيويه، والأشد تأثيراً من كل ذلك ضياء آبار النفط، وخاصة في ليالي الصيف.

لم يصدق الشاب بوجود حي كهذا في كركوك. حي اسمه زيويه. أنا أيضاً لا أعرف إن كان هناك الآن في سجلات كركوك الرسمية حي اسمه زيويه أم لا؟

لكن المؤسف، أن الأسوأ من كل تلك التعابير، جاء عندما أردت أن أعرف حال المدينة الآن من وجهة نظره، قال الشاب: في العام 2003 لما جاء الكورد واحتلوا كركوك، ساءت الأوضاع كثيراً. لم نكن نتوقع أن يتمكن الكورد من احتلال كركوك. أنا لم أشهد شيئاً كهذا قط في حياتي. كانت الفترة الممتدة بين العامين 2003 و2017 كارثية بالنسبة إلينا وهي فترة لن تنسى من تاريخ كركوك. لكن بعد خلاصنا من قبضة الكورد أصبحت الأوضاع جيدة الآن وتمضي نحو الأحسن باستمرار.

يا له من عالم لا قيم ولا معايير فيه! من يرى الآخر محتلاً ومن الذي لا يحسب حساباً للآخر!











روداو
Top