• Sunday, 25 August 2024
logo

سقوط الرخ الأخير

سقوط الرخ الأخير

كريم عبدالله محمد

سأعود بالقارئ الكريم إلى ما قبل خمسة وأربعين سنة وسأجعله ينظر إلى خارطة سياسية خسيسة كان يعد لها في مطبخ اجتمع فيه كهنة الشر بكل صوره وتجلياته.
عراق صدام حسين رغم أن العجوز البكر كان لا يزال يرأس فخريا الجمهورية الرابعة في وضع جيوبولوتيكي صعب جدا, داخليا, حيث انتهت للتو لعبة الشطرنج الكبيرة في قلب الموازين في الحكم بمقتل ناظم كزار لاعبها ومنفذها وطويت أوراق مخططها كي لا تزكم الأنوف روائح غير مرغوب فيها على مستوى من كان يحكم البلاد والعباد آنذاك, وكان الجيش العراقي يعود بأذيال الخيبة لعدم مشاركته الفعلية في جبهة القتال في حرب اكتوبر عام 1973 في سوريا بلد حافظ الأسد, ألد أعداء البعث العراقي ومنظره عفلق وتلميذه صدام, ولا ننسى أن العراقيين في ذلك الزمن تركوا عادة النوم على أسطح منازلهم خشية أن يصطادهم شبح أبو طبر ذائع الصيت, الذي كان قد أُعدم بعدما أرهب المواطنين الآمنين ردحا لا يستهان به من الزمن وخلخل الوضع الأمني على مساحة كل جغرافية العراق, ولك أن تتصور كم من السخافات من قصص الوعي واللاوعي دخلت وخرجت من وإلى مخيخ المواطن الساذج والمواطن غير الساذج على حد سواء, وهناك أيضا في زاوية أخرى نجد خرافات وأكاذيب المصارع العراقي عدنان القيسي وعكسيته المشهورة كانت تطغى حتى على أخبار البكر وصدام نفسه في كل مجالات الإعلام وكادت أن تنسي الشعب ما حدث وما يحدث في الجو القلق الذي يمر به هذا الشعب حصرا في سنتين لا أكثر امتدت من 1973 حتى سنة 1975.

وهنا لنحتسي فنجانا من القهوة وننظر إلى ما يحدث خارج حدود العراق الوطن والجغرافيا والتاريخ.

هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة في عهدي الرئيسين ريتشارد نيكسون ثم جيرارد فورد, كان مشغولا بتحويل سياسة الخطوة خطوة التي أبتدعها في عمله على رأس دبلوماسية العم سام إلى وريقات مذكراته, والتي تحولت فيما بعد إلى كتاب ذا تايتل خاص حمل عنوان (سنوات التجديد), هنري كيسنجر الذي طالما كان يؤمن بأن القصة السياسية ليس لها بداية وليس لها خاتمة كذلك, ولكنها تتمتع بالسيرورة المتواصلة وعلى الكل التكيف مع كل المستجدات.

هذا الرجل كان على موعد عشاء مع الوزير الكثيف الشعر القادم للتو من صحراء الجزائر عبدالعزيز بوتفليقة, والحق يقال بأن كيسنجر لم يكن يعط أهمية لهذا اللقاء كون القادم هو رخ في السياسة ليس إلا, وهو ينتظر الجلوس مع الشاهات والملوك طالما كانت الرقعة هي شطرنجية بامتياز, ومع ذلك ليكن ألأمر, فهو مجرد عشاء لا ضير منه.

طاولة عشاء العمل هذا كانت حافلة بكل ما لذ وطاب من أكلات يحبها الطرفين, زائدا عن عرض مغر لا يستطيع هذا الكاوبوي رفضه في وريقات قليلة فيها صفقة بيع وشراء واضحة للعيان على مستوى التجارة السياسية التي يتقنها هنري, ويتعلم منها الشاب كثيف الشعر بوتفليقة, وهنا سأل كسينجر بوتفليقة وهل سيتصافحان علنا؟ وطمأنه الأخير بنعم, شرط أن يقول لهما الرئيس هواري بومدين ذلك؟ ومرة ثانية سأل الأميركي ذلك العربي كثيف الشعر, وهل سيقول لهما بومدين ذلك؟ طمأنه مرة أخرى وقال له سيقول ما أقوله أنا, أشعل كيسنجر سيكار كوهيبا الفاخر, ثم قال لبوتفليقة وستكون انت مهندس هذا الاتفاق؟ ابتسم كثيف الشعر وقال لسيده بل ستكون أنت الباش مهندس لهذا الإتفاق.

وأراد بوتفليقة الدخول في تفاصيل ما سوف يحدث, فأقنعه كيسنجر بأن يدع تلك التفاصيل للشيطان فهو أدرى بعمله, ولنشرب الآن نخبا يليق بالمناسبة, ابتسم بوتفليقة حتى تعرق جبينه ونزلت خصلات شعره على جبينه بينما كان يعرض للصحفيين صفين من الأسنان البيضاء الناصعة وهو يسلم بحرارة على الوزير الأكبر.

مسبار بوتفليقة لم يركن ولم يهدأ وصار يجول العواصم ومنها بغداد وطهران حتى أقنع الجميع بما كان يريده ويطلبه سيده النائب آنذاك صدام حسين.
وسؤال للتاريخ,, لماذا كان يريد صدام هذه الاتفاقية؟ ولماذا كان يلح عليها؟ وفي ذلك التوقيت بالذات؟ ولماذا قبل أن يلتقي بشاه الفرس المجوس كما كان يسميهم حتى في وقتها؟

انهم الكُرد,, المشكلة من جديد,, إنهم يستقرون ويؤسسون كيانهم ويتوحدون وسوف يكون لهم شأن, وفي الحرب القادمة معهم لن ينفع صدام المدفع الوحيد الذي اصبح كل ما يمتلكه الجيش العراقي آنذاك, كما اعترف الرجل بذلك علنا في وسيلة الإعلام الوحيدة التي يمتلكها فيما بعد, بينما الجانب الكُردي قوي ومتراص الصفوف وله قيادة عسكرية محنكة وله جيش البيشمركة المدرب بشكل أساسي على حروب الجبال, ويدين بالولاء للبارزاني مصطفى قلبا وقالبا, وله القاعدة الجماهيرية العريضة, ولهذا وخشية على سقوطه ونظامه في صراع العروش الذي هو الحتمية القادمة لا محالة, قرر إعطاء شاه إيران نصف شط العرب حتى خط التالوك, مقابل رفع يده عن مساعدة القيادة الكُردية والكف عن حمايتهم, وفي الضرورة مجابهتهم سوية لو تطلب الأمر ذلك, وقبل الشاه عن طيب خاطر ذلك التنازل, وباع القضية الكُردية ووعوده لها, بثمن بخس كما باعها من قبل آباؤه وأجداده وليلعن التاريخ من يلعن, ففي النهاية بقيت العروش كما هي,, ولكن إلى حين,, فهو يمهل ولا يهمل, وقالت رقعة الشطرنج كلمتها, فبومدين مات, والشاه طُرد كالكلاب من عرشه ومات غريبا وبعيدا عن قصره الخسروي, وصدام سقط في حفرة الفئران وأعدم فيما بعد, وكيسنجر خرج من اللعبة السياسية مجبرا في عهد الرئيس كارتر, وسقط بوتفليقة الرخ الأخير على كرسي متحرك يتوسل السلطة ويُقبل الأقدام لأجلها, ولكن الشعب الجزائري قال كلمته ولفظه إلى خارج الزمان والمكان, وها هو يتوارى وتتساقط أوراقه في غرف العمليات هنا وهناك واللهم لا شماته.

بينما الشعب الكُردي بقي شامخا وبقي مخلصا لمبادئ البارزاني الخالد الذي حارب كل الدكتاتوريات ونجح فيما حارب لأجله, وسيتسمر الشعب في الحرب من أجل حريته وتحقيق كل أحلامه فقصته لا تموت طالما كانت سيرورتها متواصلة, وعلى الكل التكيف مع كل المستجدات.







rudaw
Top