• Sunday, 25 August 2024
logo

المنطقة الآمنة.. ملامح ومآلات

المنطقة الآمنة.. ملامح ومآلات
وليد حاج عبدالقادر




منذ البدايات ومع دفع الأزمة السورية صوب نفق الصراع المسلح، والتي أدت بطبيعة الحال إلى ظهور المئات من الكتائب والمجموعات المسلحة تحت مسميات وبتوجهات وأجندات متعددة، وكظاهرة طبيعية في هكذا حالة، كان لابد من تنوع آليات وطرائق المتداخلين بساحتها في مد وتجاذب، فتفرز معها أشكالاً من التجاذبات والتداخلات في المصالح حيناً، وتصارعها أحياناً أخرى حتى ضمن النسقية الواحدة، هذا الأمر دفع بالمؤثرين في المشهد العسكري للسعي إلى إيجاد شكل منظم يضبط العمل العسكري من جهة، ويؤسس آلية للتحوط اللوجستي والتحكم بطرائق دعم وتقديم السلاح كوسيلة سواء لضمان السيطرة أوالتحكم بما يفيد في الأساس.

الغاية الرئيسة لتلك الحالة العسكرية كانت غرفتا عمليات "موم" في تركيا التي واكبت الهيكليات العسكرية في الشمال، و"موك" في الأردن لمتابعة كتائب الجنوب، هاتان الغرفتان اللتان أضحيتا غرفتي تحكم وقيادة وإدارة المعارك وقيادتها وبالتالي تكويعها بما يتوافق في الأساس مع المنهج الرئيس والمؤطر تحت يافطة "التحالف ضد الإرهاب"، وعلى هذه القاعدة وبسياقية صريحة أخذت ملامحها تنكشف بالتتابع، وكانعكاس عملي للضربات المتتالية التي أخذت تنهك التنظيمات الإرهابية، خاصة بعد تقسيم الخارطة السورية وتقطيعها مناطقياً من جهة، وإيجاد بؤر - بقع وتهيئتها كبيئات استيعابية للمتشددين، مثل إدلب ومحيطها، الأمر الذي بدا لغالبية المراقبين حينها بأن إدارة أوباما الأمريكية التي كانت على وشك الرحيل حينها من جهة، إلا أنها في ذات الوقت وعبر وزير خارجيتها جون كيري كانت تؤسس وبعمق ركائز جد مهمة ومتينة في أسس ضبط إيقاع وآلية توجه الصراع الذي أخذ منحاه الدموي يتسع في سوريا، ومن ثم إيجاد أشكال - قواعد لضوابط التحكم بها وبمعايير شديدة تودي بالدرجة الأساس المهمات الموضوعة وبدقة.

وهنا، وبعيداً عن الاسترسال النظري، فإن مبادرة/تفاهمات كيري ولافروف والتي أسست قاعدة أصبحت بمثابة عرف عبر غرفة الـ"موك" في عمان، والذي تم بموجبه الاتفاق على وقف النار في الجنوب وتحت بند خفض التصعيد القتالي في بعض من مناطقها، وما تلاها من ترتيبات للمهادنات في مناطق أخرى، وكذلك ماتم بعدها من المبادلات الديموغرافية سواء في القلمون أو حمص أو غيرهما من المناطق، هذه الخطوات وما نتج عنها يمكن اعتبارها ببساطة مقدمات للمراحل التي تتالت، ويكفينا تأملاً بالذي جرى في حوض اليرموك ومعها محافظات الجنوب وبشكل خاص مدينة درعا ومحيطها، وتقاطعها مع القنيطرة وبعض من مناطق محافظة السويداء وصولاً إلى مثلث الموت فأجزاء من ريفي حمص وحماة، ومع القضاء على داعش في حوض اليرموك حرباً أو ترحيلاً من مناطق في أطراف بادية الشام، ومع خفوت أو اضمحلال دور داعش كمهمة أساسية، ظهر موقف دول التحالف من الكتائب العسكرية على حقيقته، وبصورة أدق أوضحت الغاية الرئيسة والوحيدة في دعمهم لتلك الكتائب، ومع أول حالة تصادم فعلية مع جيش النظام قرب نقاط الحدود المشتركة السورية - الأردنية، ظهر موقف دول التحالف والذي فسر على أنه تساهل، وإن عده كثيرون انحيازاً حقيقياً لأمريكا وغرفة الـ"موك" في إعادة هيمنة النظام وبسط سيطرته على تلك البقاع، وكان الموقف الأمريكي صارماً مع مجموعتي كتائب ما عرفت بـ"مغاوير الثورة"و"كتائب الشهيد أحمد العبدو"، حيث هددتهما إما بتسليم الأسلحة الثقيلة أو أنها ستقوم بتدميرها، في تعليل واضح على أنهم قدموا هذا السلاح لمحاربة الإرهاب لا النظام، وعليه، فإن من الغباء جداً والحالة هذه، الذهاب "تشطيحاً" في الجانب المقابل، وأعني به نطاقية غرفة "موم"، خاصة بعد إيقاف أنشطتها التدريبية واللوجستية العسكرية منذ عدة سنوات، كل هذا وبالترافق مع التصريحات الأمريكية وعلى لسان مسئولين في مختلف المستويات، بأن التحالف الدولي موجود في هذه البقاع لمحاربة الإرهاب كهدف أوحد لا غير.

ومع دحر الإرهاب ، والحد من خطورته إلى أدنى المستويات، بات الوضع بشكل عام لا يحتاج إلى ذلك الرفد اللوجستي والمتنوع إن من الأسلحة الثقيلة أو تواجد القوات وبزخمها السابق على الأرض، هذا الأمر لم تخفه مصادر عديدة في البنتاغون والإدارة الأمريكية، والتي وإن تعاملت بكياسة سياسية هادئة، إلا أن كل الدروب والطروحات أكدت منذ البدايات، وبلا أدنى شك أن الأسلحة الثقيلة سيتم سحبها أو تحييدها بشكل أو بآخر، وما سيتم توفيرها كبديل، هي مستلزمات قوة سعى التحالف إلى تجهيزها وتدريبها بعد سقوط الرقة وأجزاء من ريف ديرالزور، لتصبح كقوة شرطية تقوم بمهام الأمن الداخلي وحراسة بعض من قطاعات الحدود مع العراق، تلك القوة التي حددت بحوالي أربعين ألف عنصر، وقد جُهز أكثر من نصفها إلى الآن ويتوقع أن تستلم مهامها في القريب العاجل.

إن تعدد الرؤى والتحليلات التي تتناول هذا الجانب من المشهد السوري وفي هذه البقعة التي تم تحديدها جغرافياً بما بات يعرف بإسم شرق وشمال شرق سوريا، هذا النطاق الإقليم النظري الذي يشكل بحد ذاته عبئاً ديموغرافياً وجغرافياً وبانعكاس سياسي سلبي وسيء جداً على القضية القومية الكوردية في سوريا، لا بل يساهم وبشكل فاضح في تعويم كافة المشاريع العنصرية التي طبقت والتغييرات الديموغرافية التي جرت وستتشرعن في نطاق هذه الأقاليمية من جهة، وبالتالي ستلغي أو تعوم كل خاصية كوردية في خارطة سوريا سايكس بيكو، وعليه، فإن حجة المتطلبات الأمنية التركية الملحة والعاجلة من جهة، وما يرسم من ملامح للمنطقة ليست بالمطلق هي نتاج ما يتم الترويج لها، بقدر ما هي في الأساس أجزاء رئيسة من الخطط الموضوعة، ومن جديد، في نطاق ضبضبة المنطقة ككل وضمن سياقية الاستدراج الممنهج على قاعدة خفض التصعيد وكأمر محتم فيها، وأعني بها متلازمة خفض القوة، وهنا يلاحظ أن سقف هذه التخفيضات ستتجاوز الأطر والهيكليات العسكرية ذي المنحى المحلي - سوريا - لتغطي بقعاً أخرى مثل إيران المتخبطة حالياً وتركيا التي كرست - ولاتزال - كل جهودها في لعب دور المقايضة على الأرض السورية باستمرار، وكل اهتمامها مركز على إبقاء ثقل صراعها مع منظومة حزب العمال الكوردستاني خارج كوردستانها.

وفي الختام، إن المنطقة الآمنة الفاصلة، وتحت أي مسمى كانت، هي في الأساس من الخطط المرسومة مسبقاً ومنذ بدايات الأزمة السورية، وما تغير فيها هو مساعي كل طرف وبذله كل ما يمكن من جهد وضغط في سعي لتمرير أجندته من خلاله، وما يلاحظ في هذا المجال وكموقف جد مهم هنا هو الموقف الأوروبي الذي يسعى وبكل جهد لتأسيس أو إيجاد ملاذ يمكن تسميته بالآمن، يتم التأسيس عليه ومع توفير ضمانات معيشية وأمن لتعيد أعداداً من المهاجرين وتحد من أسباب الهجرة. ذلك السلاح الذي برعت تركيا في استخدامه، أما المقابل، أو ما ستقايض بها تركيا في إدلب وأطراف المحافظات المتداخلة معها، فسيكون الأساس في شروطها المقدمة والتي ستستثمر كهدف، وأعني بها إبعاد وحدات الحماية عن حدودها لمسافات تراها هي آمنة بعد تجريدها من الأسلحة الثقيلة.

وهنا تُلاحظ الكياسة الأمريكية ودقتها في التعامل عكس ما مارسته في الجنوب مع - مغاوير الثورة - من جهة، ومع ملاحظة الحساسية الكوردية من أي خطوة عسكرية تركية في مناطقها خاصة بعد تجربة احتلال عفرين وممارسات الكتائب المحسوبة على الجيش التركي، يتوقع أن تأخذ دول التحالف هذه الأمور بعين الاعتبار، وأن تراعي التركيز على القوى المحلية من أبناء المنطقة والتي يتوقع أن تلعب بيشمركة روج فيها دوراً مميزاً.

إن كل الدلائل تشير إلى أن كل القوى العسكرية التي انخرطت بشكل أو بآخر في الصراع المسلح داخل خارطة سوريا سايكس بيكو ستحال إلى فترة إعادة تأشكل بنمط وعقلية جديدة بعيداً عن روحية الميليشيات التابعة لتوجهات محددة وتدار وفق ذلك خدمة لأجنداتها أيضاً، وإلى أن يتحقق ذلك التحول ستكون اليد الطولى لتلك القوات التي ما تلوثت أياديها بعد بشكل أو آخر في الصراعات البينية.











روداو
Top