فرنسا وكوردستان.. من الحماية إلى التنمية
تشهد العلاقات بين فرنسا وإقليم كوردستان تحوّلاً في جوهرها وطبيعتها. تنتقل هذه العلاقات من مرحلة حماية الشعب الكوردي في العراق وضمان كيانه السياسي المتمثّل بإقليم كوردستان إلى مرحلة التنمية في جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية.
فرنسا ودورها الحمائي
يعرف الأخصائيون بالعلاقات الفرنسية- الكوردستانية، وكذلك المراقبون السياسيون أنّ (فرنسا فرانسوا ميتران) كانت صاحبة الدور الأبرز في نقل القضية الكوردية في العراق إلى مجلس الأمن الدولي وتبنّيه للقرار 688 (5 أبريل / نيسان 1991)، الذي شكّل الأساس القانوني لمنطقة حظر الطيران العراقي التي أقامتها كلّ من فرنسا وبريطانيا وأمريكا، الأمر الذي أمّن الحماية لكردستان العراق وشكّل قاعدة متينة لتشكيل إقليم كوردستان الذي حصل، لاحقاً، على الشرعية الدستورية بموجب دستور عراق ما بعد صدام (2005).
واظبت فرنسا على دورها الحمائي هذا حيال إقليم كردستان في محطّتين هامّتين وخطيرتين جدّاً، واجه فيهما الإقليم تهديدات وجودية. ونقصد بهما مرحلة هجوم داعش على كوردستان، بدءاً من صيف عام 2014، ومرحلة هجوم الجيش العراقي والحشد الشعبي، في أعقاب اجراء استفتاء الاستقلال في أكتوبر / تشرين الأوّل من عام 2017. في المحطّتين، لعبت فرنسا دوراً محورياً في الدفاع عن إقليم كوردستان، وإن بأسلوبين مختلفين.
البارزاني-هولاند
خلال الولاية الرئاسية لفرانسوا هولاند، توطّدت علاقة متميّزة بينه وبين الرئيس مسعود البارزاني. وفي لقاءٍ خاصّ للرئيس هولاند مع قناة رووداو، أشاد الرئيس الفرنسي السابق بمصداقية الرئيس مسعود البارزاني وعمق الاحترام والثقة اللذين يتمتّع بهما. وكشف الرئيس هولاند أنّ الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس بارزاني به غداة هجوم داعش، كان وراء قراره في التدخّل العسكري ضدّ التنظيم الإرهابي في العراق وسوريا. وبفعل هذه العلاقة المتميّزة بين الرئيسين، بات الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، أبرز الزعماء العالميين على صعيد الاهتمام بقضية الشعب الكوردي وإقامة العلاقات المتميّزة مع قيادته السياسية. فهو الرئيس الوحيد الذي زار إقليم كوردستان مرّتين خلال ولايته الرئاسية (الجمعة، 12 سبتمبر 2014) و(الاثنين، 2 يناير 2017)، ومرّة ثالثة بعد مغادرته كرسي الإليزيه وذلك لحضور مراسم منح جائزة شفاء كَردي العالمية السنوية (25 فبراير 2019). كما أنّه استقبل خلال خماسيته في الإليزيه الرئيس مسعود البارزاني لمرّتين (10 فبراير 2015) و(7 سبتمبر 2016) في القصر الرئاسي بمراسم بروتوكولية كاملة إظهاراً لتقديره واحترامه للزعيم الكوردي والقضيّة التي يمثّلها.
البارزاني-ماكرون
يبدو أنّ هذه العلاقة المتميّزة، التي جمعت الرئيسين مسعود البارزاني وفرانسوا هولاند والتي ساهمت في تعزيز العلاقات الفرنسية-الكوردستانية والارتقاء بها، تليها علاقة مماثلة تجمع الرئيسين نيجيرفان البارزاني وإيمانويل ماكرون. بدأت العلاقات المباشرة بين الرجلين إبّان اشتداد الأزمة بين العراق وإقليم كوردستان من جرّاء الهجوم العسكري الذي شنّته القوات العراقية وقوات الحشد الشعبي على المناطق الكوردستانية المشمولة بالمادة 140 من الدستور العراقي، ومن ثمّ فرض الحصار على إقليم كوردستان. ومثلما لعبت فرنسا دوراً كبيراً في تهدئة الأزمة وحثّ الطرفين على الحوار، بذل الرئيس ماكرون جهداً متميّزاً في فكّ الحصار عن الإقليم، واستقبل رئيس الوزراء (آنذاك) نيجيرفان البارزاني في الإليزيه بحفاوة وأعلن له دعمه الكامل، ومساندته لحقوق إقليم كوردستان وشعبه كاملة بموجب دستور العراق وفي إطاره الفيدرالي.
وفي أعقاب تنصيبه رئيساً للإقليم، بعث الرئيس ماكرون برسالة إليه، جاء فيها: "إنّ تنصيبكم هو بداية لمرحلة هامة بالنسبة إلى إقليم كوردستان وعموم العراق اللذين يقفان على عتبة عودة الاستقرار والمصالحة المجتمعية. أنا واثق من أن تجاربكم في المسؤولية وإحساسكم كرجل دولة، سيكونان عوناً على إنجاز مهمتكم الجديدة هذه والتي تدعمها فرنسا كامل الدعم".
مساحة مشتركة وآفاق مفتوحة
ثمّة مساحة مشتركة في التفكير بين الرئيسين البارزاني وماكرون تتمثّل في ذهنيتهما المنفتحة على الآخر وتفضيلهما للحوار في حلّ المشاكل والأزمات وروح المثابرة وعدم اليأس في مواجهة العقد المستعصية. ولذلك، يمكن لفرنسا والرئيس ماكرون أن يلعبا دوراً جوهرياً في ملفّ العلاقات بين الإقليم والمركز والمشاكل العالقة بينهما، سيما وأنّ الأمم المتّحدة قد استجابت لدعوة الرئيس نيجيرفان البارزاني في لعب دورها في هذا الملفّ وخاصّة بشأن المناطق (المتنازع عليها)، ويمكن لدور فرنسا (العضو الدائم في مجلس الأمن) أن يكون حيويّاً في هذا الإطار. كما أنّ أزمة إيران التي أدّت إلى انسحاب شركات النفط الفرنسية (توتال نموذجاً) من هذا البلد قد يدفع إلى تزايد اهتمام هذه الشركات بنفط الإقليم ذي السوق الناشئة والواعدة. يُضاف إلى ذلك تزايد الاهتمام الفرنسي بالجانب الثقافي والتربوي في علاقاته مع الإقليم.
أمام الرئيسين البارزاني وماكرون متّسعٌ من الوقت وآفاقٌ واسعة للمضي بالعلاقات بينهما وبين بلديهما قدماً في مختلف المجالات، ولاسيما في مجالات التنمية الاقتصادية والثقافية، التي ستكون بلا شكّ أولويات مرحلة ما بعد الحرب المشتركة على داعش.
روداو