مأزق أردوغان
في تصريحات أدلى بها إلى قناة 7 التركية ، ألمح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى إمكانية إحياء عملية التفاوض التي كانت حكومته قد بدأتها مع حزب العمال الكوردستاني في العاصمة النرويجية أوسلو/2009-2011/ بهدف التوصل إلى حل للقضية الكوردية التي تعتبر أم القضايا التي تجابهها الجمهورية التركية منذ تأسيسها قبل ثمانية عقود.
"فيما يتعلق بإمرالي ، من الوارد إجراء مزيد من المباحثات" قال أردوغان في إشارة إلى الجزيرة الواقعة إلى الجنوب من مدينة إسطنبول حيث يقضي زعيم حزب العمال الكوردستاني عبدالله أوجلان فيها حكما بالسجن االمؤبد منذ ثلاثة عشر عاما بعد إختطافه في عملية معقدة بمشاركة عدد من أجهزة الإستخبارات الدولية ، من بينها وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية ، في 15 كانون الثاني – يناير – من عام 1999.
تصريحات أردوغان هذه جاءت مفاجئة بعد تصعيد كلامي وسمت مقاربة حزب العدالة والتنمية للقضية الكوردية عموما ومن حزب العمال الكوردستاني تحديدا مؤخرا ، وذلك وسط تكثيف هذا الأخير بشكل غير مسبوق لهجماته على الأهداف العسكرية التركية في عموم كوردستان ، ولكن على الخصوص في ولاية هكاري المحاذية لكل من كوردستان العراق وإيران ، وهي الهجمات التي أدت حتى الآن إلى مقتل المئات من أفراد الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكوردستاني على حد سواء ، كما أنها تأتي قبل يومين فقط من إنعقاد مؤتمر حزبه الذي يرى الكثير من المراقبين بأنه سيشكل المحطة الأهم في تاريخ إسلاميي تركيا الذين يحكمونها منذ عقد من الزمن بالنظر إلى كونه سيحدد إستراتيجية الحزب البعيدة المدى، و سيقضي بإجراء إصلاحات كبيرة في بنيته التنظيمية وتركيبته القيادية ليكون في مقام التصدي لمهام المرحلة المقبلة ، علاوة على أنه يتوقع أن يجدد رئاسة أردوغان للحزب لآخر مرة ، خ اصة وإن أردوغان لايخفي رغبته في الترشح للإنتخابات الرئاسية التي من المقرر أن تعقد في صيف 2014. وشدد أردوغان في تصريحاته هذه أيضا إلى "أن هناك أبعاد عسكرية لهذه القضية ، كما أن هناك بعدا أمنيا ، قائما بذاته ، سيستمر ، ولكن إلى جانب ذلك هناك أبعاد دبلوماسية وإجتماعية - إقتصادية ونفسية" حسب قوله.
ماالذي يقف في أساس هذه الإنعطافة الحادة في مواقف أردوغان التي إتسمت بالتشدد المفرط حتى قبل أيام قلائل ، خاصة وإن إستفتاء للرأي أجرته قناة – خبر تورك – قبل أسبوع أكدت على أن شعبية الإسلاميين الأتراك لاتزال مرتفعة للغاية ، وأن حزب العدالة والتنمية سيحقق تقريبا نفس الإنتصار الساحق الذي حققه في إنتخابات 2011 فيما لو أجريت الإنتخابات الآن؟
الواقع أن توجه أردوغان مؤخرا نحو المواقع القوموية بهدف كسب تأييد القوميين الأتراك على خلفية عودة الصراع التركي – الكوردي الدامي إلى واجهة الحياة السياسية في البلاد بعد فترة من الهدوء النسبي حرك المياه الراكدة في بحيرة حزب العدالة والتنمية بفعل سنوات من السيطرة شبه التامة على الحياة السياسية في تركيا ، وبسبب الأداء المزري للمعارضة المؤلفة بصورة أساسية من حزب الشعب الجمهوري الكمالي الذي لايتوقع له أن يشكل أي تحد جدي في وجه سلطة الإسلاميين في المدى المنظور. والواقع أن أردوغان إنحاز في "إنعطافته القومية" هذه إلى التيار المتشدد داخل الحزب ممثلا برئيس البرلمان - جميل جيجك - الذي يتبنى طروحات لاتختلف في مضمونها عن جوهر سياسة الكماليين المعادية للحقوق الكوردية وإعتبارها " جزأ من مؤامرة دولية تستهدف النيل من وحدة تركيا وعظمتها" على حد زعمهم ، لكن ذلك لايروق للأغل بية من أعضاء وقيادات الحزب الذي يشكل في الواقع تجمعا للفئات الدينية المحافظة التركية والمتدينين الكورد المعتدلين ، بالإضافة إلى شريحة لايستهان بها من الليبراليين الناقمين على سياسة الهيمنة والوصاية التي مارسها العسكر المتشبعون بالفكر الكمالي القوموي على مدى قرون عديدة ، وهي السياسة التي مزجت في ثناياها بين الإستبداد السياسي والعنف المفرط ضد معارضيها من الإسلاميين والكورد وغيرهم من الشرائح والقوى التي نادت بإقامة دولة ديمقراطية علمانية قائمة على إحترام القانون وفصل السلطات وإحترام حرية وثقافة وحقوق مكونات البلاد الإثنية والدينية والمذهبية ، وقد إحتدت الخلافات داخل الحزب الحاكم مؤخرأ إلى درجة كتبت فيها – لاله كمال – في صحيفة "تودايز زمان" المقربة من أوساط الإسلاميين إلى أن هناك توجها نحو إنشاء حزب سياسي جديد ينبثق من داخل الحزب الحاكم أو نتيجة إنشقاق عنه يلتف حول رئيس الجمهورية عبدالله غول بهدف إكمال عملية الإصلاح السياسي الشامل في البلد ، تلك التي تلكأت خلال السنتين الأخيرتيين. لكن محللين سياسيين ممن هم على دراية دقيقة بخبايا السياسة الداخلية التركية يرجحون أن تكون تصريحات أر دوغان عن إستئناف الحوار مع حزب العمال الكوردستاني هي مجرد مناورة ذكية من جانبه تهدف إلى رمي الكرة الملتهبة في ملعب حزب أوجلان لإحراجه كونه لن يستطيع التجاوب مع دعوات الحوار في هذه الفترة "لأنه ذهب بعيدا في علاقاته وتحالفاته مع نظامي دمشق وطهران" ، كما يقولون ، وبهذا سيتمكن من ضرب عصفورين بحجر واحد ، فهو سيؤكد لجماهير حزبه من الكورد ، وهم ليسوا قليلين بأية حال ، على أن من لايريد الحل السلمي هو حزب العمال الكوردستاني لأنه يقدم مصالحه الذاتية على مصالح الشعب الكوردي ، بدليل أنه يتحالف مع نظامين معاديين للكورد وحقوقهم ، كما أنه سيتمكن من إطلاق يد الجيش التركي الذي صرح رئيس هيئة أركانه الجنرال نجدت أوزال بعد مرور ساعات فقط على تصريحات رئيس وزرائه على إنه/الجيش/ مستعد تماما للإستمرار طويلا في "الحرب على الأرهاب" على حد زعمه ، وبذلك سيقطع أردوغان ، من ناحية أخرى ، الطريق أمام المعارضة التي تتهمه بالضعف والتردد في التصدي لهجمات الكوردستاني الأخيرة.
يجب الإعتراف بأن حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان ، ورغم كل تذبذبه في مقاربة المعضلة الكوردية النازفة ، سيدخل التاريخ كأول قوة سياسية تركية حاكمة ، على الأقل على مدى العقود الثمانية المنصرمة التي هي تاريخ الجمهورية التركية الحديثة ، إعترفت بوجود "مشكلة كوردية" ، لابل أن أردوغان قال في ديار بكر – آمد - قبل عدة أعوام بأن "المشكلة الكوردية هي مشكلة تخصه شخصيا". ورغم أن سياسات أردوغان تجاه الكورد تراوحت بين المد والجذر ، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع إقليم كوردستان العراق إلا أنها بدت كما لو أنها رست أخيرا على أرض راسخة. فخلال مدة قياسية تحول الإقليم الكوردي ، من خصم مزعوم ، إلى أحد أهم شركاء تركيا الإقتصاديين في المنطقة. وقد ترافق ذلك بما أطلق على تسميته ب"الإنفتاح الكوردي" الذي طرح كخارطة طريق لحل القضية الكوردية في تركيا. وكانت حكومة أردوغان تفاوض في الوقت ذاته زعيم حزب العمال الكوردستاني عبدالله أ وجلان سرا في سجنه بجزيرة إمرالي عن طريق أحد أبرز مساعديي رئيس الوزراء – حقان فيدان – الذي سيرقيه لاحقا إلى منصب مدير الإستخبارات القومية التركية – ميت – ويفوضه بالإستمرار في التفاوض سرا مع حزب العمال الكوردستاني في أوربا على مدى سنتين فيما عرف لاحقا بإسم "محادثات أوسلو". وكان يبدو أن كل شيئ يسير حسب الخطة الموضوعة مسبقا ، فقد إستطاع أردوغان بذلك من بث أمل حقيقي في نفوس الكورد والترك على حد سواء في إمكانية وقف نزيف الدم والتوصل إلى حل دائم ونهائي للقضية الكوردية ، لكن إنهيار "محادثات أوسلو" بين تركيا والحزب الأوجلاني إثر مقتل ثلاثة عشر جنديا تركيا في منطقة – سيلفان – في تموز – يوليو – عام 2011 في هجوم نفذه مقاتلون من حزب العمال الكوردستاني وضع حدا ل"الإنفتاح الكوردي" مع كل مادشنه من عودة إلى أجواء التوتر والإستقطاب القومي. وقد جاءت أحداث ماسمي بالربيع العربي لتخلق فرصا جديدة لإعادة تفعيل المواجهة الكوردية – التركية بعد أن وجد الحزب الأوجلاني في ذلك نافذة لتعزيز مواقعه من خلال إسترداد بعضا من تحالفاته القديمة على الصعيدين الأقليمي و الدولي ، والنجاح في توجيه ضربات مؤلمة إلى الآلة العسكرية التركية ، خاصة وأن النخب العسكرية في البلاد تعيش أسوء مراحلها على الإطلاق نتيجة للملاحقات القضائية التي أسفرت عن إصدار أحكام طويلة بالسجن على أكثر من ثلاثمائة عسكري ، بينهم جنرالات ، فيما عرف بقضية "المطرقة الحديدية" بعد إدانتهم بمحاولة القيام بإنقلاب عسكري يطيح بحكومة العدالة والتنمية في عام2003 ، مما أدخل أردوغان وحكومته في مأزق شديد. الباحثة الإسرائيلية المهتمة بالشأن الكوردي – أوفرة بينغيو – عبرت بدقة متناهية عن مأزق أردوغان وحكومته الإسلامية هذا في مقالة نشرت في صحيفة – حرييت ديلي نيوز – عندما كتبت قائلة:
"حكومة حزب العدالة والتنمية الآن في موقع لاتحسد عليه وينطبق عليها المثل القائل – ملعون أنت إن فعلت ، وملعون إن لم تفعل - . فإن هي قدمت تنازلات للكورد ، فستتهم بالإستسلام أمام الإرهاب ، وإن هي لم تفعل ذلك ، فإنها سترفد الحركة القومية الكوردية بالمزيد من وقود إستمراريتها".