• Friday, 17 May 2024
logo

عبد الواحد علواني : الجغرافية المفخخة

عبد الواحد علواني : الجغرافية المفخخة
عندما رسمت جغرافية العصر الحديث من قبل الدول الاستعمارية، لم يراع فيها سوى مصالح هذه الدول وديمومتها، واستغرقت الكثير من الوقت لسببين رئيسيين، الأول يتمثل في تقاسم مناطق النفوذ وأهميتها، والثاني يتعلق بإمكانية زحزحة هذه الجغرافية من خلال خطوط حدودية قلقة، ودفع الكرد الضريبة الأعلى لهذه الجغرافية المفروضة التي أجريت عليها تعديلات حرمتهم حتى من دولة هزيلة، وبذلك أصبحوا من أكبر القوميات التي حرمت من كيان قومي مستقل.

ولم يقتصر الأمر على حرمانهم، بل تم تقسيمهم بين خمس دول ناشئة تبحث عن هوية لها، فاستغرقت في ايديولوجيات قومية متعصبة حاولت على الدوام طمس كردية الكردي، وإنكار أرومته وثقافته، وحرمانه من مواطنة متساوية مع بقية مواطنيها، حتى أصبح الكردي غريباً في أرضه، وعانى الكرد فوق معاناتهم المعيشية من فرض أمية كردية، بحيث لا يعرف شيئا من لغته وتاريخه وتراثه، وذلك بتعليم متعسف لا يقر بشيء من جوانب شخصية الكردي، فنشأت أجيال لا تملك من هويتها الخاصة سوى لغة شفهية يتم التضييق عليها باستمرار.
وخلال أكثر من قرن مضى عاش الكرد مآس كبرى كان وراءها كل القوميات التي وقعوا تحت هيمنتها، ولم تبق قومية إلا وأعملت فيهم القتل والتهجير والتضييق، فكل صوت مطالب ببعض الحقوق حتى الإنسانية منها كان يعد معادياً وخائناً، وكان على الكرد جميعهم أن يدفعوا ثمن جرأة بعضهم، فاستخدمت ضدهم إجراءات عامة كان أقلها عدم الاعتراف بحقوق المواطنة، ووصلت إلى حد استعمال أسلحة الدمار الشامل ضد قراهم وبلداتهم.
وكانت هجرة الكرد القسرية متنوعة من هجرة داخل جغرافيتهم إلى هجرة خارجها، الاحتكاك مع الثقافات الأخرى فتح أعينهم أكثر على حقهم في أن يكون لهم وطن وكيان وشخصية وحقوق، ومهد الطريق نحو استعادة لغتهم وتراثهم، وتنوعت طرق كفاحهم من أجل استعادة وجودهم، وتصاعد الثمن الذي يدفعونه لقاء ذلك، وتم التلاعب بهم أيضاً في الصراعات الإقليمية والدولية، حتى أصبح تاريخ الكردي حقبة من الدماء والعناء، بدأت بعض الآمال تنضج مع سقوط البعث العراقي، ونهوض حركة معارضة في وجه ملالي إيران، ورضوخ أبناء أتاتورك لبعض من الاعتراف تحت ضغط الالتحاق بالركب الأوربي، وأخيراً الربيع السوري المنتفض بقوة على الرغم من التكلفة الفادحة التي دفعت وتدفع كل يوم، إلا أن طول العهد بالاضطهاد المزدوج الذي عاناه الكرد في كل مكان لم يمتعهم بطبقة سياسية خبيرة قادرة على صياغة مبادئ عامة وجزئية، فهم للأسف إلى اليوم يفهمون السياسة من خلال أحزاب تفتت المجتمع الكردي وتقسمه إلى جماعات غير متوافقة أمام تحولات نوعية وتاريخية تجري في محيطهم، مع أن المرحلة تتطلب منهم قراءة عميقة للأحداث ومآلاتها الممكنة.
ولعل الحالة السورية تطرح هذه الأزمة بطريقة واضحة ومؤلمة، فالمعارضة التي تحاول جهدها أن تسقط النظام لم تتخلص من أمراض هذا النظام، وسياسيو الكرد المتنطعون يتسولون الاعترافات ممن لا يملك حتى الآن أن يعترف أو لا يعترف بهم، وقد جعلوا من مشاركتهم ورقة ضغط يعتمدون عليها، ففترت همتهم وانشغلوا بصيغ دفاعية لاثبات هاجسهم الوطني من جهة، وصيغ تظلمية لاستدراج المزيد من التعاطف مع حقوقهم، وتم في هذه الأثناء إرسال رسائل خاطئة من قبل بعض المتحمسين تقول أن الكرد مصرون على الانفصال عن الجسد السوري، وهذا الأمر وإن بدا هامشياً أو ذا تأثير بسيط، إلا أنه في الواقع كان مؤثراً جداً، إذ يكفي أن نتصور أن المدن المنتشرة في الشمال الشرقي ثائرة بأقصى طاقتها بالمواكبة مع المدن السورية مثل حمص وإدلب ودرعا وديرالزور وريف دمشق وحماة... وبما لا يقل عنها، حتى ندرك كم كانت السلطة ستتداعى بسرعة أكبر، وتسقط بزمن أقصر.
في اعتقادي أن الكرد اليوم يضيعون فرصة أخرى من الفرص التي أضاعوها دوماً، وأن المجال لا زال متاحاً إذا تداركوا عدة أمور منها: أولا الاستجابة لحركة شباب الثورة خارج الأحزاب، والعمل على إنهاض الشارع وتهميش الأحزاب، وهي خطوة غير متيسرة بسهولة طبعاً ولكنها ممكنة، وثانياً: وضع تصور وطني حريص على الوحدة السورية وفي نفس الوقت حريص على الحقوق الكردية القومية والثقافية والتنموية وعدم استجداء الاعتراف بها من الآخرين لأنها حقوق وليست هبات وعطايا... ثالثاً الإقرار بالتنوع القومي والديني في سورية عامة ومنطقة الجزيرة خاصة، والأصرار على السبل الديمقراطية في أي أهداف يتمنون تحقيقها، ومن المفيد في هذا المجال إقامة علاقات الثقة مع بقية الأطراف من خلال تبني النموذج المدني التعددي، والابتعاد عن الخطابات والسلوكيات التي تثير العداء تجاههم....ورابعاً: العمل الدؤوب على ضبط حركة الشارع الكردي لتكون له استراتيجية موحدة تصر على وحدة التراب السوري، وبنفس الوقت الإيمان العميق بالحقوق الكردية كشعب له ثقافته الخاصة وحقوقه التي يجب أن ينالها ويستعيدها غير منقوصة، وهذه الاستراتيجية سترغم كل من يود النكران للحقوق الكردية أن يقر بها إذا كان راغباً حقاً في سورية موحدة وعادلة وديمقراطية، أو كان يدعي ذلك، لأنها ستشكل أساس العقد الاجتماعي والسياسي والثقافي الجديد، أدرك أن هذا الأمر صعب جداً، مع تغول بعض الأحزاب لظروف إقليمية وسياسية وأمنية، ولكن علينا أن نقر أن تحقيق هذا الأمر ممكن الآن أكثر من أي وقت مضى، والفرصة السانحة اليوم على الرغم مما يحيط بها من التباسات وتكاليف هي من أفضل الفرص التي يجب اغتنامها من أجل غد عادل وآمن وناهض. والمهمة مناطة بشباب الكرد أكثر من غيرهم ممن ورثوا الايديولوجيات التي طال عليها الأمد. فشباب الكرد أكثر قدرة على تعرف السبل نحو هذا الغد، وأكثر إيمانا وقدرة على البذل والعطاء من أجل تحقيقه.
قدر الكرد أن تدميهم الحدود الجارحة لجغرافية مفخخة، كانوا ضحاياها على الدوام، وعليهم اليوم أن يجعلوا هذه الحدود لطيفة سمحة تجعل من الروح الكردية تتحد وتتواصل وتبني عالماً جديدا من الثقة في المنطقة، وذلك من خلال الحرص عليها كحدود إدارية تتيح لهم التعاون مع أبناء الوطن بناء دولة مواطنة حقيقية، وتتيح لهم أيضاً إعادة بناء المجتمع الكردي ضمن الثقافة الكردية الممتدة خارج هذه الحدود، وهذا السعي سيسقط من بين ما يسقطه من مثالب العقود الماضية مسألة التلاعب على الاختلافات البينية داخل الكتلة الكردية، وسيحرم الآخرين من استخدامهم للورقة الكردية في صراعاتهم الإقليمية التي كانت تنعكس سلباً على الكرد جميعاً


عبدالواحد علواني

كوليلك
Top