فاتح الشيخ : رسالة إلى أكراد سوريا .. الديمقراطية الأكثرية والديمقراطية التوافقية
في ستينيات القرن الماضي برزت للوجود مدرسة سياسية جديدة ، حملت معها مقاربات مختلفة للمواضيع الديمقراطية المتعددة ، وفي مقدمتها قضية التحول الديمقراطي من نظام حكم استبدادي إلى نظام حكم ديمقراطي.
وقد بيّن رائد المدرسة (أرنت ليبهارت) في كتابه المعنون (الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد ) أن الديمقراطية التوافقية تعبر عن استراتيجية جديدة في إدارة النزاعات الداخلية للبلدان التي تتصف مجتمعاتها بالتعددية الدينية والإثنية والطائفية ، وذلك من خلال التعاون والتوافق بين القوى السياسية المتنافسة ، لإعادة بناء وتركيب نظام سياسي جديد ، يأخذ بالديمقراطية التوافقية سبيلاً لإدارة شؤون الحكم .
وقد حظيت التجارب الديمقراطية التوافقية بشيء من التقدم والنجاح في دول أوروبية تتمتع بتقاليد ديمقراطية عريقة (بلجيكا – هولندا – سويسرا – النمسا) والتي لم تكن احتياجاتها للديمقراطية التوافقية تعود للتنظير الأيديولوجي ، بقدر ما كانت تعود إلى ضروراتها الواقعية الضاغطة ، لمعالجة المشكلات القائمة على أرض الواقع السياسي ، وإيجداد الحلول الملائمة لها ، وفي مقدمتها التعدد الثقافي لبلدانها .
وقد ترتب على الاستراتيجية الجديدة هذه ضرورة التمييز بين نظامين ديمقراطيين :
· نظام ديمقراطي أكثري (تنافسي) : المطبق في دول عالية التجانس المجتمعي (مجتمعات مندمجة)، حيث لا وجود لدين أحادي أو قومية شوفينية أو طائفية سياسية .
· نظام ديمقراطي توافقي (تركيبي ) : المطبق في دول التعددية المجتمعية (مجتمعات غير مندمجة ) والتي تعاني الكسور الصُلبية في بنيتها المجتمعية ، والظاهرة للعيان من خلال التعدد الديني والقومي والطائفي والمذهبي والقبلي والعشائري ...
الأكثرية الأبدية والأقلية الأبدية : ما العمل ؟
من المعروف أن هناك عملية انتخابية دورية تجري في ظل الأنظمة الديمقراطية العريقة ، ذات المكونات المجتمعية المنصهرة، والخاصة باختيار ممثلي الشعب - النواب - حيث أن الناخبين لا يقررون مواقفهم سلفاً تجاه الأحزاب والأشخاص ، بل يقومون ببناء رأيهم ومنح أصواتهم على أساس البرامج الانتخابية للمرشحين ومستوى أدائهم ، وهي التي سيترتب عليها لاحقاً تداول السلطة حال ظهور نتائج الانتخابات الدورية .
في حين يذهب أنصار الديمقراطية التوافقية ، إلى أن تطبيق نظام الأكثرية الانتخابية - عدد الأصوات - على المجتمعات التعددية ، سيؤدي بالضرورة إلى قيام ديمقراطية اكثرية دكتاتورية ، دينية أو قومية أو طائفية ، كون سلوك الناخبين في المجتمعات التعددية يختلف عن سلوكهم في المجتمعات المندمجة ، لأن أهل الأديان والقوميات والطوائف المتعددة فيها ، يدخلون العملية الانتخابية وهم مقررون سلفاً انتخاب المرشحين المعبرين عن مصالحهم وتطلعاتهم ، والمعتقدين أنها ستخدم دينهم أو عرقهم أو طائفتهم ، دون النظر إلى برامجهم الانتخابية .
وهذا ما يدلل على أن نتائج الانتخابات ستكون محسومة مسبقاً بنسبة ما تملكه كل فئة دينية أو إثنية أو طائفية من الأصوات العددية ، وأن الفئة الأكثر عدداً ستبقى في السلطة من خلال نظام أكثري دكتاتوري وإلى الأبد في حين الفئة الأقل عدداً سوف تعاني الإقصاء الدائم ، مما ينعكس سلباً على السلم الأهلي ويهدد الوحدة الوطنية والترابية للبلد ، وتلك هي بالضبط الأطروحة المركزية للقائلين بالديمقراطية التوافقية والساعين إليها .
القوائم الأربع للديمقراطية التوافقية :
الأولى : تحالف واسع أو حكومة ائتلافية تشمل أغلبية المكونات الدينية والقومية والطائفية .
الثانية : مبدأ التمثيل النسبي في توزيع حقائب الوزارات والمؤسسات والهيئات بين المكونات المجتمعية المتعددة .
الثالثة : منح حق النقض (الفيتو) المتبادل للأكثرية والأقلية على حد سواء ، واتخاذ القرارات بالإجماع .
الرابعة : الإدارة الذاتية لكل مكون من مكونات المجتمع الأهلي في التعامل مع شؤونه الخاصة .
مقارنات بين الديمقراطية الأكثرية والديمقراطية التوافقية :
· إن المبدأ الأساسي للديمقراطية الأكثرية يقوم على المواطنة والولاء للوطن بمجموعه ، في حين أن المبدأ الأساسي للديمقراطية التوافقية يقوم على الولاء والانتماء لمكون أحادي من مكونات المجتمع الأهلي المتنوع (الجماعة العضوية المباشرة)
· اتخاذ القرارات في الديمقراطية العادية تتطلب الأكثرية ، في الوقت الذي يُشترط فيه الإجماع في الديمقراطية التوافقية .
· إن الديمقراطية الأكثرية تتعامل مع الأفراد ، وتتصف بالمرونة ، في حين أن الديمقراطية التوافقية تتعامل مع الكيانات المكونة لها على أساس كونها دول أو كيانات تتفاوض ، وتتصف بالمرونة المحدودة .
· إن الحكم الأكثري يتمتع بالقوة والقدرة على مواجهة الضغوط والأزمات السياسية ، في حين أن الحكم التوافقي هو الأكثر تعرضاً للهزات والتشكيك لعدم قدرته على ضبط معايير المشاركة بالشكل الأمثل.
· إن الاتفاق في الديمقراطية التوافقية يسري لوقت محدد وموضوع محدد - آني - ، في حين أن التوافق الديمقراطي الأكثري هو تعاقد مجتمعي متجدد ومفتوح نتيجة الحراك الاجتماعي الدائم .
· إن الديمقراطية الأكثرية هي آلية لإدارة اختلاف المصالح بشكل سلمي ، وتقوم على السلم الأهلي المدني ، أما الديمقراطية التوافقية فهي مُنتج متأتٍ لاتفاق المكونات الأهلية على العيش المشترك .
والخلاصة إذا كانت الديمقراطية الأكثرية تُركِب وتقوم على الكلية الوطنية ، فإن الديمقراطية التوافقية تُفكِك وتقوم على الجزئية الطائفية والعرقية ومحاصصاتها التفكيكية .
آثام الديمقراطية التوافقية :
· إنها تقوم على أساس مناقض للديمقراطية العادية ، كونها تنطلق من التكتل الديني أو العرقي أو الطائفي وليس على المواطنة ، وتتمثل فيه الأديان والأعراق والطوائف عبر أحزاب غير مدنية (طائفية) ، ولا يبقى من الديمقراطية في هذه الحالة سوى الحريات الصحفية والانتخابات وحق تشكيل الأحزاب (الطائفية) .
· إن صيغة الديمقراطية التوافقية تغذي الحساسيات والانتماءات الفرعية والدموية والعصبوية لمجتمع ما قبل إقامة الدولة الحديثة وتعزز مواقعها بحفر الخنادق فيما بين مكونات الشعب الواحد المتآلفة على مر التاريخ ، وتحول الصراع الاجتماعي إلى صراع تاريخي وتكرسه وتخلق معه شروط ديمومته الخلافية إلى ما هو أبعد من كونه إجماعاً توافقياً ، ( التأسيس للخلاف! ) ، وتحول السلم الأهلي المدني إلى صيغة للعيش المشترك .
· إن الحكم التوافقي وائتلافه الواسع يؤدي إلى التعدد في مصادر السلطة ، وبروز مراكز القوى ، ويتعطل فيه عمل المعارضة السياسية ورقابتها على عمل الحكومة ، لذلك كان عمل واشتغال أي نظام سياسي بدون معارضة سياسية نظام ميت وغير مُنتج ، وهذا ما تفتقده الصيغة التوافقية حيث لا معارضة فيها.
· في حالة عدم تحقق الإجماع – الذي هو أحد الركائز الأربعة للتوافقية- في اتخاذ القرارات بين المكونات المختلفة تعرض البلاد إلى حالة من عدم الاستقرار .
· جمود العملية السياسية ، والتلكؤ في اتخاذ القرارات ، وشل حركة المجتمع ، والسير باتجاه الحرب الأهلية بين المكونات المشكلة لهذا التوافق .
· إن الفيتو المتبادل بين الأكثرية والأقلية ينطوي على خطر إضافي يتمثل في تجميد وعرقلة صنع القرارات بشكل كامل ، خاصة وأن الفيدرالية هي القوام الأساس للصيغة التوافقية .
· إن الديمقراطية التوافقية هي حاضنة الفساد والمفسدين ، وذلك بسبب الصيغة الائتلافية للحكومة – المحاصصة الوزارية – حيث أن القيام بمحاسبة الفاسدين سيترتب عليه انفراط عقد الصيغة الائتلافية الحكومية بالتأكيد ، ومن ثم دخول البلد في مرحلة الشلل السياسي التام (جلطة سياسية) إن جاز التعبير .
· إن توزيع الوظائف في الوزارات والمؤسسات والهيئات الحكومية ستكون على الهوية الفرعية فيصبح لكل مكون من المكونات وزاراته أو مؤسساته الخاصة به (اقتسام الغنائم) ، وبهذا يتم الانتقال تبعاً لذلك من الديمقراطية التوافقية إلى الطائفية والعرقية التوافقية.
· إن الديمقراطية التوافقية اصبحت تعني المحاصصة الدينية والأثنية والطائفية الـ (كوتة) لجميع المناصب السياسية في السلطة ، ولكل مكون من مكونات المجتمع المذكورة ، وأصبح ولاء الوزراء والمسؤولين في السلطة لا يُمنح للوطن والدستور والحكومة ، وإنما للكتل الطائفية والولاءآت الضيقة التي ينتمون إليها ، وهذا ما يحول دون الأداء السليم للحكومة ، ويُفقدها النظرة الشمولية (الأكسيومية) للوطن ككل .
استنتاجات ختامية :
- إذا كان المطلوب من الديمقراطية الوفاقية أن تكون مدخلاً أولياً للتحول الديمقراطي في المجتمعات التعددية ، لذا كان من الضروري أن لا تبنى وتترسخ على المحاصصة الطائفية والعرقية بين أبناء الشعب الواحد، كونها تهيء الأرضية الملائمة لتفكيك البلد وتقسيمه ( العراق ، السودان) .
- إن تأسيس نظام حكم ديقراطي بحجة التوافقية وعلى أساس المحاصصة العرقية و الطائفية المقيتة ، بدل الالتزام بمبدأ المواطنة هو بمثابة مشروع للحرب الأهلية بين المكونات المجتمعية ، بدلاً من التأكيد على التماسك والاندماج الوطني .
- إن من يرغب برؤية المخرجات النهائية للديمقراطية التوافقية ومحاصصاتها الطائفية والعرقية في عراق الحضارات - المحتل – فلن يرى سوى : الاحتلال – طمس الهوية (العِجمة) – الطائفية – الانفصال – التفكك - المحاصصة – الدم - التهجير – التشريد – الفساد – الفقر - الأمية – النهب – التدمير.....
الخلاصة : -
إذا كانت الديمقراطية التوافقية تنبثق عن هويات تعددية ، وتحتوي على مجموعة آليات ورقابة وموازنة ، بيد أنها في الوقت نفسه ليست ديمقراطية بالمعنى الحديث ، كونها تُنصب المكون المجتمعي الفرعي فوق الوطن وتحيل العلاقة بين (المواطن – الدولة) إلى علاقة بين (المكون – الدولة) ويتحول التنافس السياسي بين الأحزاب حول البرامج الوطنية الشاملة إلى تنافس بين الطوائف أو داخل كل طائفة لتحصيل المكاسب والامتيازات ، مما ينتج عنه صراع أو توافق من النوع المُحاصصي البغيض .
نعم .... لقد تطور الفكر السياسي الديمقراطي التوافقي تجاه الاعتراف بالحقوق الجماعية والإدارات الذاتية لأصحاب الهويات المتعددة (العرقية والمذهبية والطائفية) ، وذلك منعاً لاستبداد الأغلبية بالأقلية من جهة ، وقطع طريق التأثير الخارجي على الشأن الداخلي من جهة أخرى .
ولكن الأخذ بها يأتي عقب الانتهاء من إرساء المواطنة الفردية وحقوقها كأساس للتعامل بين الفرد والدولة وليس قبلها (حقوق المواطنة أولاً) ، وهي الحقوق التي تُمنح وينُصُ عليها الدستور نفسه باعتبارها حقوقاً مشتقة من حقوق الفرد المواطن .
وإذا كنا ننتصر للديمقراطية الأكثرية ونعطيها الأولوية ، فهذا لا يعني رفضنا للديمقراطية التوافقية ، بل نعتبر الأكثرية بوابة التوافقية .
إذاً : الديمقراطية الأكثرية أولاً و الديمقراطية التوافقية ثانياً .
[1] - كاتب سوري مقيم في المانيا