• Friday, 17 May 2024
logo

بالحوار تبنى الأمم

بالحوار تبنى الأمم
محمد عبد الجبار الشبوط
-الصباح


يلعب الحوار دورا كبيرا وايجابيا في بناء الامم ونشوء الحضارات. جل ما نعرفه من انجازات حضارية كانت ثمرة حوارات معمقة تنشأ بين الانسان والانسان، وبين الانسان والطبيعة. بل ان تاريخ الانسان يبدأ، حسب رواية القرآن، بحوار ثلاثي بين الله والانسان وابليس. كتابات الفلاسفة الكبار، قبل افلاطون وبعده مرورا بكارل ماركس ولينين على سبيل المثال وغيرهما، كانت عبارة عن حوارات واقعية او متخيلة. الديمقراطية بحد ذاتها نظام نقاش وحوار سلمي. مفهوم الشورى الاسلامي عبارة عن حوار ونقاش. لا تتحقق الشورى دون ان يحصل حوار بين متحاورين. الحوار لا يفترض التماثل والتطابق بين الاراء والافكار. بل يزدهر في عكس هذه الحالة، اي بين المختلفين في الاراء والافكار والتصورات. الحوار بين هؤلاء المختلفين يساعد على الوصول الى تصور اقرب الى الحقيقة والى تصور اقرب الى المصلحة. تنضج الاراء من خلال الحوار، و”ضرب الرأي بالرأي”، حسب مصطلح الامام علي.
في مرحلة بناء الدولة المدنية الحديثة يكون العراق والعراقيون احوج ما يكونون الى تفعيل الحوار البناء بين جميع المعنيين، من سياسيين ومفكرين وكتاب واعلاميين وناشطين اجتماعيين. ففي مجتمع لم يحقق بعد التوافق الوطني العام حول أسس بناء الدولة وممارسة الحياة الجديدة، يكون الحوار بين جميع الاطراف هو السبيل الامثل لبلورة الافكار والتصورات والحلول وتحقيق نوع من التوافق الوطني على ما يتطلب هذا التوافق، حيث ان المساحة سوف تبقى كبيرة دائما لمسائل اخرى كثيرة تكون موضع خلاف ولا تتطلب توافقا او اجماعا، وهذا ايضا من معالم الديمقراطية.
لم يكن من الممكن تصور انطلاق حوارات عامة في عهد الدكتاتورية التي تؤمن بقاعدة “ما اريكم الا ما ارى.” بعد التغيير، انطلقت الصحف والكتابات والمواقع الالكترونية والفضائيات، الامر الذي وفر جوا جديدا من حرية التعبير والنشر لم يكن موجودا من قبل. لكننا لا يمكننا الزعم بان البلد يشهد حوارات علمية و حقيقية على مختلف المستويات وعلى نطاق واسع، كما هو المفروض. قد نلاحظ حلقة هنا او هناك، لكن البلد ما زال بحاجة الى المزيد من الحوارات من اجل البناء، خاصة اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان الدول لا تبنى بالصراخ انما بالكلام البناء والعلمي، والعمل المستند الى رؤية علمية وموضوعية للاشياء.
ثمة من مازال بحاجة الى التذكير بشروط الحوار العلمي البناء. وهي شروط معروفة لا تمثل لغزا، يمكن الرجوع اليها في الكثير من المصادر والمراجع. ومن هذه المصادر القران الكريم نفسه، على الاقل لمن يؤمن بالقيمة الحضاري لهذا النص العظيم. فالقران زاخر بالنصوص والايات التي تدعو الى ممارسة الحوار بطريقة ايجابية ونافعة، وتحذر من حوار الطرشان او رمي الكلام على عواهنة. ثمة اية تنهى عن القول بلا علم او تثبت، اخرى تدعو الحوار على اساس “الكلمة السواء” وغيرها تدعو الى القول اللين، او القول السديد وغير ذلك.
يمكن للقنوات المتخصصة بالفكر الديني، او القريبة منه، ان تلعب دورا كبيرا في اشاعة قواعد الحوار البناء عبر تسليط الاضواء على الايات القرانية ذات العلاقة. كما يمكن لغيرها ان تقوم بنفس الامر استنادا الى مرجعيات اخرى. لكن الهدف يبقى واحدا، وهو رفع مستوى ممارسة الحوار بين اصحاب الاراء المختلفة والمتباينة، وصولا الى تصورات اكثر نضجا وشمولية.
هذه دعوة مفتوحة ليس الى تنشيط الحوار فقط، وانما ايضا الى تحري الحوار البناء، الحوار الذي يدور حول افكار وليس اشخاص، ويستند الى معلومات موثقة وليس انطباعات او اشاعات، و المستند الى قواعد علمية تنفع الجميع وتساعد في بناء الدولة المدنية الحديث في العراق، تلك الدولة القادرة على تجسيد مفاهيم المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون والمؤسسات والمستفيدة من معطيات العلم الحديث.
Top