ســوريـا و«الــدروس» التـركـيــة
-السفير
تقدم تركيا نفسها بصورة غير رسمية نموذجا للأنظمة العربية وبعض الأنظمة الإسلامية.
ومع أن الكلام على النموذج التركي تكرر في السنوات الأخيرة، فإنه شهد «تضخما» غير مفهوم خلال الثورة المصرية، وتسلم الجيش المصري مقاليد السلطة لفترة انتقالية غالبا ما قد تمتد لسنوات. وهو ما دفع الرئيس التركي عبد الله غول إلى زيارة القاهرة كأول رئيس أجنبي ليقدم النصائح للعسكر المصري بضرورة تسليم السلطة إلى المدنيين في أسرع وقت.
والدرس الثاني جاء على لسان وزير الخارجية احمد داود اوغلو، أثناء زيارته أمس الأول إلى دمشق، التي قيل إنها تمحورت حول كيفية استفادة سوريا من التجربة التركية في الانتقال من نظام الحزب الواحد إلى نظام تعدد الأحزاب في العام 1946.
وقد أكد كل من الصحافيين المرافقين لداود اوغلو، جنكيز تشاندار وعبد الحميد بالجي، أن القسم الأكبر من المباحثات بين الرئيس السوري بشار الأسد وداود أوغلو (ساعتين من أصل ثلاث ساعات) تحول إلى «سيمينار» (حلقة نقاش) حول التجربة التركية.
وإذا كانت انطباعات داود اوغلو، على ما ينقل الكاتبان، من أن اللقاء مع الأسد كان «خارقا» لشدة ارتياح الوزير التركي، فإن علامات استفهام وتساؤلات تطرح نفسها على هذا الصعيد. يسجل أولا أن هذه الزيارة، وما سبقها إلى البحرين، كانت الأولى لداود اوغلو إلى المنطقة العربية منذ بدء موجة الثورات العربية في تونس.
ولم تحدث زيارتا داود اوغلو هاتان إلا بناء لعاملين:
الأول طلب المرجعية الدينية في النجف وساطة تركيا في البحرين، بعدما سدّت طرق التوصل إلى حل. وكان تصريح رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان حول «كربلاء» جديدة في البحرين هو الذي شجع المرجع الأعلى لشيعة العراق السيد علي السيستاني لطلب وساطة اردوغان.
أما السبب الثاني فلم يكن لتقديم داود اوغلو محاضرات ودروسا للقيادة السورية حول التجربة التركية، إذ ليس الأوان في الأساس لمثل هذا الترف الفكري، كما أن التجربة التركية تحتاج إلى الكثير من التطوير لتصبح نموذجا قابلا للاستفادة، وليس للمحاكاة، خصوصا في الحالة السورية المتشابهة في خصوصياتها مع المجتمع التركي.
وهنا نفتح قوسين استطرادا، ونقول إن نقطتين تثيران حساسيات في المجتمع السوري، وهما الحقوق الثقافية للأكراد والعلاقة بين السنّة والعلويين.
وهنا لا أدري أية دروس يمكن أن تقدمها التجربة التركية تجاه قضية كردية، لا تزال تواجه بسياسات إنكار واسعة، يتساوى في ذلك الإسلامي والعلماني، بحيث لا يمكن تسجيل فرق ملموس في نظرة حزب العدالة والتنمية عن نظرة سائر الأحزاب التي تعاقبت على تشكيل الحكومات قبل وصول «العدالة والتنمية» إلى الحكم في العام 2002. وإذا كان من نموذج تستفيد منه سوريا جدّيا وجذريا على صعيد الحقوق الثقافية فهو التجربة العراقية خارج بعدها التقسيمي الفدرالي، غير الوارد أساسا في سوريا لألف سبب.
وأيضا لا تقدم التجربة التركية نموذجا ناجحا في ما يتعلق بالعلاقة بين السنة والعلوية، على اعتبار أن العلويين الذين يقدرون في تركيا بـ15 إلى 20 مليون نسمة لا يزالون مجموعة غير معترف بهويتهم المذهبية، رغم أن النظام علماني أو يفترض أن يكون كذلك.
كما أن هناك العديد من المشكلات التي يمكن سوريا أن تكون نموذجا لتركيا، وليس العكس، مثل قضية الحجاب التي لم ينجح بعد النموذج التركي في حلّها، حيث يمنع في الجامعات التركية وفي الدوائر الرسمية بينما هو مسموح به في سوريا، بل سمح الآن بارتداء النقاب أيضا.
تبقى بالفعل معضلة يمكن أن تستفيد منها سوريا من تركيا، وهي التعددية الحزبية، لكن أيضا بحدود معينة. إذ ان التجربة التركية التعددية، التي بدأت عام 1946، لم تكتمل كجزئية ضمن نظام ديموقراطي فعلي إلا بعد تقليص صلاحيات الجيش وإنهاء الوصاية العسكرية بعد استفتاء 12 أيلول العام 2010. أي انه لم يمض بعد سنة على اكتمالها. واستغراق استكمال التحول الديموقراطي في تركيا هذا القدر الطويل (أكثر من نصف قرن) في ظل انقلابات وتحكم العسكر بالمسار السياسي قد يدفع بالسوريين إلى البحث عن خيارات تنسجم أكثر مع المرحلة الانتقالية افتراضاً التي تمر بها سوريا اليوم.
لا أعتقد أن الكتاب الأتراك يواجهون حقيقة أن زيارة داود اوغلو دبّرت على عجل، في إثر امتعاض المسؤولين السوريين من مواقف معينة للدبلوماسية التركية التي تواجه صعوبات في كيفية التعاطي مع حركة الشارع العربي.
ومع أن حرية إبداء الرأي حق للجميع، فإن سماح السلطات التركية لمراقب الإخوان المسلمين في سوريا محمد الشقفة بعقد مؤتمر صحافي في اسطنبول هاجم فيه النظام السوري شكل برأي أوساط سورية متابعة «غلطة» للدبلوماسية التركية تجاه سوريا، البلد الذي قدم لتركيا كل شيء.
كذلك فإن إشارة اردوغان إلى «ايجابية» أن تكون زوجة الرئيس الأسد العلوي سنية كان لها وقع سيئ جدا لدى دمشق، التي تعتقد أن أنقرة قد تجاوزت الخطوط الحمر الحساسة في قضية لا يمكن التلاعب بها في سوريا، التي تعتنق مبدأ أقرب إلى العلمانية منه إلى أي شيء آخر. وأن أنقرة بهذا الموقف تثير هواجس لا تصب في مصلحة العلاقات التركية السورية.
جاء داود أوغلو إلى دمشق بعدما أدركت الدبلوماسية التركية أن «جس النبض» لا يمكن قبوله من جانب دمشق، وبالتالي لا بد من التراجع عن الخطأ الكبير الذي ارتكب في شأن الحليف الاستراتيجي. والأيام المقبلة كفيلة بصورة أكثر وضوحاً لكل الاحتمالات.