السياسة بوصفها علماً
- صحيفة الخليج الاماراتية
لم يعد كافياً أن نقول أن السياسة تعني “علم إدارة الدولة” وهي “فن الممكن” كما درجنا للتعبير عن الواقعية السياسية والبرغماتية، وليس مقنعاً القول أن السياسة ومبادئها هي تعبير عن مثل وقيم، ولا بدّ أن تتحوّل إلى خطط وبرامج، وهذه الأخيرة كي تصبح ممكنة فلا بدّ من أقوال وأفعال، ومن ثم إلى تقويمات ومراجعات، في ضوء تطبيقات ومؤسسات ولكن ذلك كلّه لابدّ أن يقترن بفعل الخير وإلاّ ستكون السياسة وفعلها شراً.
وحسب ابن خلدون: السياسة عموماً هي صناعة الخير العام . . وهي أمانة وتفويض ولا مجرى لها إلاّ بين تضاريس المحاسبة والتوضيح، فليس لأحد الحق في امتلاك أركانها، باسم استخلاف إلهي أو ما شابه، وإلاّ فستبقى دواوين التاريخ مفتوحة على أخبار قوى التسلط والتحكّم المناقضة لشرائع النقل والعقل .
كلّما انحدر الكلام في السياسة، ازدادت الحاجة إلى الاهتمام بها كعلم، والأمر ليس بعيداً عن عاملي الأخلاق والخير، والسياسة مثلها مثل غيرها من العلوم لا تصبح علماً، أي إدارة وتدبيراً وتنظيماً إلاّ باقترانها بعنصر الخير، فالسياسة العدوانية والعنصرية والفاشية والإجرامية، ليست سياسة بسبب صفات الشرّ الغالبة عليها والعكس صحيح، فالشجاعة التي هي فضيلة من فضائل القلب، وسمة للإنسان القوي، لن تكون كذلك إذا استخدمت للشر . الشجاعة صفة للخير ولن تكون موضع إعجاب وتقدير إن لم تستخدم في فعل الخير وليس لفعل الشر . فالشرير ليس شجاعاً مهما تجشم من مخاطر وواجه من تحدّيات لبلوغ مآربه . الشجاعة هي فضيلة من فضائل الإنسان الذي يتمكن من الإمساك برباطة جأشه في الوقت المناسب حسب المهاتما غاندي، والشجاعة تقتضي مقاومة الشر لا الاقتداء بالشرير، وكذا الحال هي السياسة أيضاً .
ثلاثة كتب قرأتها عن السياسة بمتعة مؤخراً، مع رابط بينها وبين الأخلاق، موهبة وفناً ومُثلاً وقيماً وقبل ذلك علماً، الكتب لثلاثة من علماء السياسة: الأول للبروفسور جان ماري مولّر وهو فيلسوف فرنسي وكاتب في قضايا اللاعنف، بحيث بات مرجعاً لثقافة اللاعنف منذ عقود من الزمان، وهو من مؤسسي “حركة من أجل خيار لا عنفي” الفرنسية، ولديه ما يزيد على 25 كتاباً عن اللاعنف، وهو مناصر للقضايا العربية العادلة . وقد ترجم كتابه محمد علي عبد الجليل وراجعه ديمتري أفييرنيوس وهو بعنوان “قاموس اللاعنف”، وفيه جولة مهمة على فكرة وسياسة وثقافة اللاعنف . وقد قدّمت له الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية باقتباس من المفكر العربي اللبناني والذي يُعدّ من روّاد اللاعنف في المنطقة الدكتور وليد صليبي، الذي أسس مع رفيقته الدكتورة أوغاريت يونان، مشروع اللاعنف وحقوق الناس في لبنان منذ عام 1983 وأكثر من جمعية ومنتدى، وهو اليوم ينشط في إطار مؤسسة أكاديمية رصينة اسمها “جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان” مع نخبة متميّزة عربية ودولية .
والكتاب الثاني “حكاية السياسة”، للدكتور عبد الخالق عبد الله، أحد أبرز أساتذة السياسة في العالم العربي. والدكتور عبد الله له مساهمات عديدة في القضايا الخليجية والعربية والعالمية المعاصرة، كما أنه عضو مجلس دبي الثقافي والمنسق العام لمنتدى التنمية الخليجي، ورئيس تحرير أسبق للمجلة العربية للعلوم السياسية. يسرد الدكتور عبد الله حكاية السياسة بطريقة مشوّقة من البداية وحتى النهاية، أي منذ أن كانت بذرة حتى أصبحت شجرة وارفة، وعلى الرغم من شيوع استخداماتها فقد ظلّت السياسة غامضة ومبهمة، وتتطلب المزيد من الدرس والبحث والتمحيص، لاسيما في عصر العولمة، حيث لم تعد السياسة شأناً محلياً معزولاً، ولعل عولمة السياسة هي آخر مستجداتها .
أما عالم السياسة الثالث فهو الدكتور شيرزاد أحمد النجار وهو أستاذ علم السياسة، الذي درّس فلسفتها وعلاقتها بالقوانين الدستورية والدولية. وعنوان كتابه هو " دراسات في علم السياسة" وهو مجموعة أبحاث في استخدام نموذج المدخلات والمخرجات كأداة تحليلية في دراسة النظام السياسي ومشكلة الشرعية في الدولة الحديثة لدى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماز، ودراسة نقدية حول الديمقراطية ومفهوم الدولة لدى هيغل (الدولة المُعقلنة) والنظرية النقية في القانون وديمقراطية الدولة القانونية وتنشئة المواطن والسلطة في المجتمعات البدائية .
من مدخل كتاب البروفسور جان ماري مولّر إلى آخر فقرة فيه يكرّس السياسة للاعنف: عنف الذات وعنف الآخرين، ولعل سياسة اللاعنف المتواضعة هي التي حررت الشعب الهندي من أعتى استعمار في زمانه وهزمت بريطانيا العظمى، حيث تفوّق غاندي السياسي الأعزل على ثعلب السياسة، ونستون تشرشل المدجج بالسلاح والمعرفة والتكنولوجيا، الذي قال متهكّماً: “سنقاتل حتى آخر هندي” .
إن سياسة اللاعنف حسب مارتن لوثر كنغ كانت تعني “قوة المحبّة” التي انتصرت في نضال لا عنفي نموذجي، مما أدى إلى إلغاء منظومة القوانين العنصرية بعد قرون من الاستعبادمثلما كان للمقاومة المدنية في أوروبا دور كبير ضد العدوان النازي، فيوم أقفل هتلر المدارس البولونية، نظم البولونيون تعليماً خاصاً سرياً، وكانت فكرة المقاومة المدنية هي وراء نقابة تضامن التي أطاحت بالنظام الشمولي في بولونيا، ولعل هذه " اللا" هي التي أطاحت بدكتاتور الفيليبين ماركوس، وهي التي ظهرت بصورة جلية في الانتفاضة على زين العابدين بن علي وحسني مبارك في تونس ومصر وانتقلت “عدواها” إلى أقطار شتى من ليبيا والجزائر إلى إيران وما بينهما .
إن وجود قاموس خاص لللاعنف وسياساته، يعني تفسير فلسفة اللاعنف وتحديد استدلالاتها لفهم المعاني وتفسير المباني ونزع الالتباسات عنها وتحديد فاعليتها وإيجابياتها، لاسيما في قضايا العدالة والعنصرية والأصولية والشمولية والإرهاب بما فيه إرهاب الدولة التي ينزع عنها شرعيتها وصدقيتها . هذا القاموس الرصين والمثير للإعجاب حقاً هو تكملة لكتابين سابقين ترجمهما الدكتور وليد صليبي الأول بعنوان “معنى اللاعنف” والثاني “استراتيجية العمل اللاعنفي” .
الدكتور عبد الخالق عبد الله، عالم السياسة الإماراتي سرد علينا حكاية السياسة قديماً وحديثاً، بتعريفاتها الفلسفية والواقعية والقانونية والسلوكية ومستقبلها، متوقفاً عندها كفن وموهبة مثلما هي علم ومعرفة، مناقشاً السياسة فكراً وسلوكاً عبر مفكرين مثل أفلاطون وميكافيلي وروسو وابن خلدون، واضعاً قضية الحرية في المقام الأول، منتقلاً بعد ذلك لمناقشة السياسة: حكومات ودولاً، محلياً وعالمياً، لاسيما في ظل العولمة . والبروفسور عبد الله قارب السياسة متابعاً بشكل عابر ثم فاحصاً وبعدها طالباً ومتخصصاً وباحثاً وأكاديمياً ومحاضراً ومحللاً وكاتباً ومؤلفاً . ولعل كتابه هو حصيلة هذه الرحلة المضنية، أي حصيلة علم وخبرة اعتنى فيها بالأفكار كما بالحروف، فالكتابة عنده فيض قراءة .
يقول عبد الله في مقدمته: “إن السياسة هي مدرسة لضبط الأخلاق والسلوك وغرس القيم الإيجابية ودمج الفرد في المجتمع والتعايش مع الآخرين وتقبّل الرأي المختلف والمخالف بتسامح وبناء المواطن الصالح المحب لوطنه والمدافع عن دولته والمنتمي لأمة . . .” .
أما عالم السياسة الكردي العراقي الدكتور شيرزاد أحمد النجار فإنه بعد إطلالته على النظام السياسي، يبحث في شرعية الدولة الحديثة، وذلك ضمن إطار الفلسفة السياسية للفيلسوف الألماني يورغن هابرماز، وحسب علمي فإنه من أكثر المختصين العراقيين إلماماً بفلسفة هابرماز وتطويراته، فقد نشر وترجم الكثير من الأبحاث عنه بما فيها فلسفته بخصوص التسامح . وتتصل فلسفة هابرماز بمدرسة فرانكفورت ونظريتها النقدية والاجتماعية، ويتوقف لدى سسيولوجية الدولة ومشكلة الشرعية فيها . أعتقد أن الدكتور النجار من خلال عرضه يقتفي أثراً متبعاً ابن خلدون الذي يقول: “صارت الدول لا باع لها إلاّ في تسخير الناس بغير حق، وتصريف الآدميين طوع الرغبات والشهوات . . . وغير ذلك من آيات الظلم الذاهب بأسباب الرجاء والانشراح المؤذن بخراب العمران، العائد بالوبال على دوائر السلطان”، ولعل ما كتبه ابن خلدون كان فأل تغيير لهذه المنطقة التي انتظرت طويلاً .
لا يتوقف البروفسور النجار وهو المهجوس بالديمقراطية وهضم الحقوق عند عدم الشرعية، بل يتابع النظرية النقدية ليصل إلى هابرماز ومدرسة فرانكفورت مرّة أخرى، ولعل أهم استنتاجاته في هذا المجال هو أن الديمقراطية مرتبطة بمبدأ الأغلبية، لكن هذه الأغلبية ليست دائماً على حق، بل يمكن أن تكون مضللة أو خاطئة، وفي هذه الحالة ستتحول إلى شرعية مزيفة أو إلى عجز في الشرعية، وقد تنتج الطغيان أو تجبر المواطنين على التوجه الخاطئ، الأمر الذي يحتاج إلى توسيع تطبيقات مبدأ الأغلبية بحيث يكون بعيداً عن التزوير أو التحريف . ولعل هذه مسألة جديرة بالاهتمام وهي جديدة في أبحاث العلوم السياسية، لاسيما في العراق أو دول المنطقة .
أعتقد أننا بحاجة إلى رد الاعتبار للسياسة بوصفها علماً، لاسيما بربطها بالأخلاق وبعنصر الخير، وإلاّ ستكون عملاً شريراً، سواء على المستوى الفردي أو العام وعندها لن تكون سياسة .