حياة الأوادم في الشمال
ماجد ع محمد
لا شك في أن المرء حين يتابع التطور المستمر في دول الخليج عموماً والسعودية على وجه الخصوص، وينظر بعين المقارنة بين الدول العربية الأخرى التي كان الوضع فيها إبان الاستقلال أفضل حالاً من حال دول الخليج وقتذاك، ومن ثم ما حلَّ بتلك الأقطار التي أصابها التكلس وبقيت جاثمة في مكانها بخلاف دول الخليج، سيُصاب بخيبة أمل كبيرة لرؤيته التفاوت الكبير بين مَن كانوا وتراجعوا، وبين مَن انطلقوا من الصفر وصاروا ينافسون العواصم العالمية في التطور والعمران والاقتصاد.
ومن بين الدول الخليجية تسعى المملكة العربية السعودية منذ سنوات لإحداث قفزات نوعية وإبراز التغييرات التي ستشهدها المملكة في سياق "رؤية 2030" في مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية. وحسب المراقبين، فهي بحق تعمل بشكلٍ دؤوب من أجل تحقيق تلك الرؤية وتنفيذها على أرض الواقع، ولكن يبدو أن التركيز الكبير جداً على الحضارة المادية كان على حساب الجانب المعنوي المتعلق بالقوانين الخاصة بأناس البلد والوافدين، وعلى الأغلب لم يخطر على بال صناع القرار قط أن عملاً فنياً واحداً قد يدفع المراقبين إلى التشكك بمسارها التطوري ويهز صورتها الناصعة أمام الرأي العام الاقليمي والدولي، وذلك من خلال فيلمٍ يُجسد مساوئ نظام الكفالة في ذلك البلد، علماً أن هذا النظام ليس خاصاً بالسعودية وحدها، إنما هو حسب الموسوعة الحرة متَّبع في العديد من الدول الخليجية والأردن والعراق ولبنان، وهو نظام قانوني معمول به في تلك الدول، والذي بموجبه يُحدِّد العلاقة بين صاحب العمل والعامل الأجنبي.
والسعوديون، الذين شعروا بأن ذلك العمل الفني كان يتسم بالشمولية ويُجانب الإنصاف وقد مس بسمعتهم جميعاً على اختلاف مشاربهم السياسية والفكرية وشرائحهم الاجتماعية، فإنهم بعد فيلم "حياة الماعز" استنفروا وحشدوا الطاقات الإعلامية وأصحاب الأقلام الغيورين على سمعتها، وأوعزوا المؤسسات لتقوم بعملها على أكمل وجه لكي تعمل على إفهام متابعي الفيلم في العالم والمتفاعلين معه بأن "حياة الماعز" لا تمثل من الحقيقة إلاَّ ربعها، كما أنها تعني ذلك الوكيل وذلك الهندي ومن في حكمهم ولا تشمل كل الناس وكل الحياة في السعودية، وأن الفيلم ركَّز على نقطة سوداء واحدة وتجاهل كل البياض المحيط بتلك البقعة؛ هذا بالنسبة إلى المعنيين حقاً بتبعات ما ورد في "حياة الماعز".
أما في سوريا، التي انتفض فيها الشعب منذ 13 سنة ضد جرائم وانتهاكات الأجهزة الأمنية وعسف جلاوزة السلطة الحاكمة الذين يحكمون بالحديد والنار، فلا يزال آخر هم الجهات الحاكمة هناك هو الالتفات إلى ما يؤلَّف ويُكتب عنها وما ينشر بخصوصها في التقارير الدولية التي تتحدث كل حين عن الجور المتواصل والطغيان واستمرار انتهاكات حقوق الإنسان في سورية؛ ولكن لنفترض جدلاً بأن حال النظام حيال ما جرى طوال السنوات الماضية أذن من طين وأذن من عجين، وبالتالي هو غير معني أصلاً بسمعته محلياً وإقليمياً ودولياً، باعتبار أنَّ موضوع حقوق الإنسان يأتي في نهاية قائمة اهتماماته قبل الاحتجاجات الشعبية في 2011 وبعدها، فيا ترى هل هؤلاء العسكر الذين انتفضوا بوجه النظام بسبب ممارسات أجهزته الأمنية غدا حالهم سلوكياً من حيث لا يدرون مثل حال الذي ثاروا عليه، خصوصاً بعد أن صاروا أصحاب سلطة في قطعة جغرافية في الشمال السوري؟ أي راحوا يتبعون نهجه في التجاهل والحط من شأن الإنسان والتنكيل بالمختلف والمناهض، وكما هو حال النظام، فلم تعد تعنيهم السمعة قط؟ لذا لا يُشغل بالهم ما يأتي في التقارير الدورية الصادرة عن منظمات دولية حول انتهاكات حقوق الإنسان في مناطق نفوذهم.
ففيما يتعلق بالتقارير الحقوقية الصادرة عن جهات دولية ضد دولة ما أو ضد جهة سياسية أو عسكرية ما، أليس من المفروض أن تستنفر الجهة المدانة وتعقد الندوات وتتحرك بكل الاتجاهات لعلها تخفِّف من حدة تبعات التقارير؟ أو على الأقل توحي لمتابعي هذه القضية على أنها بالفعل أخذت بما ورد في تلك التقارير على محمل الجد، وبدأت تتحقق في المزاعم الواردة فيها لكي يتلقى المذنبون عقابهم على ما ارتكبوه ومن ثم تعمل الجهة المسؤولة على إزالة الأسباب التي أثَّرت على سمعة تلك الجهة أو الحزب أو المؤسسة.
والسؤال المطروح ها هنا، هل تم مراجعة ما ورد في عشرات التقارير التي تؤكد حدوث الانتهاكات بالجملة ليس في مناطق نفوذ النظام إنما في مناطق الذين ثاروا عليه بسبب ممارساته الجائرة؟ والتي جاء فيها أنَّ مجموعة من الفصائل العسكرية لجأت لأساليب التعذيب في مرافق الاحتجاز كما هو الوضعُ لدى أجهزة أمن النظام، مثل: الشبح والضرب بالأنابيب الحديدية والكابلات والصعق بالكهرباء؛ حيث أن لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسورية في تقريرها الذي شمل النصف الأول من عام 2024 الجاري ضمن الدورة الـ 57، لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، أدانت فصائل "السلطان مراد، والسلطان سليمان شاه، والجبهة الشامية، وفيلق الشام، والشرطة العسكرية"، كما تحدَّث تقرير اللجنة عن الضحايا من النساء، إذ وثّق حالتَي اغتصاب يجرى التحقيق في تفاصيل كل منهما، ووفق التقرير المذكور أن واحدة من الحالتين تورط فيها عضو بفرقة "السلطان مراد"، بعد تهديد الضحية بقتل أفراد أسرتها، وحالة قتل ضد ناشطة تلقت تهديدات بالقتل من جهات مجهولة؛ لترك منصبها كعضو في المجلس المحلي، كما أدان تقرير اللجنة فرقة "السلطان سليمان شاه" لقيامها بمصادرة أراضٍ ومنازل وفرض ضرائب وأتاوات باهظة على السكان المدنيين، وتوثيق العديد من حالات الاعتقال ضد أولئك الذين قاوموا مطالب الفرقة، إضافةً إلى التهديدات والعنف والابتزاز المالي، كما شدَّدت لجنة التحقيق الدولية على اعتقادها بأن فرقة "السلطان سليمان شاه" التي يتزعمها محمد حسين الجاسم الملقب بــ"أبو عمشة" مارست أعمال نهب ترقى لمستوى جرائم حرب.
فيا ترى هل اجتمعت الإدارة أو السلطة الحاكمة في تلك البقعة الجغرافية المعنية بالتقارير المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في مناطق سيطرتها ولو مرة واحدة وتتبعت الدلائل الواردة في تلك التقارير؟ وهل جرَّبت ولو مرة واحدة وناقشت ذلك الأمر بجدية وبحثت في الأسباب وتتبعت مسار الفاعلين وأنزلت العقومة المادية أو المعنوية بالمنتهكين؟ وهل الإدارة هناك عملت مثل النشطاء السعوديين عقب ما أحدثه فيلم "حياة الماعز" وسعت فعلاً إلى تحسين صورتها أمام الرأي العام المتعاطف مع الثائرين السوريين على النظام في دمشق؟ وهل سعت يوماً أو عملت بشكلٍ فعلي لتحسين حياة الأوادم في مناطق سيطرتها؟ فإن قال أحدهم إنها فعلت ذلك فهذا يعني أنه ثمة ضوءٌ ورجاء في نهاية النفق المظلم يشير إلى أن هذه القوى المسلحة هي بحق مختلفة كلياً عن المؤسسات العسكرية للنظام الحاكم في دمشق؟ ولكن طالما أن رد فعلها وتعاطيها مع كل التقارير هو نفس آلية تعامل النظام مع التقارير الدولية فأي فرقٍ جوهري من جهة السلوك العملي على أرض الميدان بين هذا وذاك؟ ومن أينَ سيُستشف الأمل في إحداث التغيير المنشود طالما أن الثاني يقتفي أثر الأوَّل ويقلده بطريقة كاريكاتورية؟ بما أنه حتى في المحاكاة فلا اتقان ولا احتراف أو تضلُّع يُلمح إلى إمكانية النجاح في إحتذاء وتتبع خطى المعلِّم الأوَّل! هذا بالرغم من أنَّ أكثر ما يُزعج معظم الثائرين على أيَّ نظامٍ سابق التلميحَ إلى أنهم باتوا يُطبقون تعاليمه ويقتفون أثره في إرساء قواعد النظام اللاحق.
باسنيوز