حياة الماعز: الإنسان أولاً وأخيراً
ادريس سالم
بين بوليوود الهند وهوليوود الأمريكيين، قصّة إنسان حقيقي، اختطف في مطار عربي، على يد كفيل لم يكن بكفيل له، هي قصّة نجيب محمّد، التي شاهدناها في الفيلم الهندي «حياة الماعز»، أو «The Goat Life»، وهو عن قصّة العامل الهندي البسيط نجيب، الذي جمع مبلغاً من المال من خلال مراهنة بيته وبيع ممتلكات له، من أجل تأشيرة عمل في إحدى الشركات العاملة في السعودية، وفيما يلي تفاصيل عن العمل السينمائي، قبل الغوص في مجريات الرواية، التي استند إليها فيلم حياة الماعز، الذي يعتبر أول عمل هندي، يهدم الصورة البرّاقة للخليج في الجنوب الهندي:
اسم الفيلم: حياة الماعز، أو The Goat Life
سيناريو وإخراج، بليسي إيبي توماس
نوع الفيلم: دراما، مغامرة، البقاء على قيد الحياة
المدّة: 173 دقيقة
البلد: الهند
لغة الفيلم: اللغة الماليالامية
سنة الإنتاج: مارس 2024
أبطال الفيلم: بريثفيراج سوكوماران، طالب البلوشي، عاكف نجم، جيمي جين لويس، كاي آر غوكول، ريك آبي، أمالا بول، شوبه موهان...
بدايات القصّة:
تبدأ القصّة بعد وصول نجيب برفقة صديقه حكيم إلى المطار، ومحاولة الوصول إلى كفيلهم، لكن وصل كفيل آخر واستغلّ فرصة تأخّر كفيلهم الحقيقي وبساطتهم وعدم تمكّنهم من التحدّث باللغة العربية، فأوهمهم أنه الكفيل الذي يبحثون عنه، ثم يأخذهم معه نحو صحراء شاسعة وقاحلة، ليترك الكفيل حكيماً في حظيرة صديقه، ثم يصطحب بطل الفيلم إلى حظيرته، ليفاجئ عند وصوله إلى الحظيرة بوجود عامل هندي كبير في العمر، لا يتميّز عن الخراف والماعز والجِمال إلا أنه يمشي على قدمين.
استغرق تغيير ملامح وتفاصيل وأنماط حياة نجيب ثلاثة أعوام، تغيّر شكله وهيئته، وتطوّر فيزيولوجياً وسيكولوجياً، إذ تأثّر ذهنه وقدرته على الكلام؛ بسبب ما تعرّض له من معاملة قاسية وصارمة وصعبة ودونية من قبل كفيله الخاطف، فأمسى يعيش حياة الماعز، يأكل ويشرب وينام معهم في الحظيرة، ويصدر بعضاً من أصواتهم في مراعي الصحراء.
يلتقي مصادفة بصديقه حكيم، ومعه صديق ذي أصول إفريقية يُدعى إبراهيم خديري، كانا مثله تماماً، عانا الأمرّين وأقسى وأعنف صنوف المعاملة الوحشية، بعد عناق وبكاء أخبر حكيم نجيباً بأن خديري من الممكن أن يساعدهم في عملية هروب مؤكّدة، فبدأ ثلاثتهم مشقّة الرحلة وأهوال الصحراء، فيموت الشابّ الصغير حكيم من الحرّ والعطش والجوع والتعب، ليختفي فيما بعد خديري أثناء عاصفة رملية، أما نجيب فيصل أخيراً إلى طريق رئيسي، وهو في حالة إعياء شديدة، ويوشك على الهلاك.
وبعد ثلاثة أعوام قضاها مع عنف وقهر وظلم واستعباد الكفيل السعودي الخاطف، يتوقّف له وسط الطريق رجل سعودي آخر، اتّسم بالكرم والرحمة والأخلاق، فاصطحبه معه إلى المدينة، وأوصله إلى أحد المساجد، وهناك يجده عمّال هنود، كانوا يعملون في أحد الفنادق، وينقذون حياته، ويأخذونه إلى السلطات المعنية في السعودية، والإبلاغ عن حالته، ويظهر في نهاية الفيلم تعامل السلطات مع العمّال والمغتربين مجهولي الهوية، وكذلك مظالم الكفلاء وأساليبهم العنيفة عند التعرّف على عامل هارب، فيضربونهم بالعِقَال أمام موظّفي ورجال أمن السلطات السعودية دون حراك منهم، وكأنهم ماعز أو خراف، فيُصاب نجيب بالذعر والهلع عند رؤيته لخاطفه، الذي يخبره أخيراً أنه لو كان على كفالته لأعاده للصحراء مسلوخ البدن، وعند ذلك المشهد القاسي يدرك نجيب أنه كان مخطوفاً، وهذا ليس كفيله، ليختتم الفيلم بترحيل نجيب إلى بلده، بعد قضاء ثلاثة أشهر في السجن، وأن ما حدث له ليس إلا حالة فردية، بل تجربة شبيهة، قد مرّ ويمرّ بها الآلاف من العمال والمغتربين واللاجئين.
تفشّي اللجوء والاغتراب:
إن قصّة ومعاناة نجيب محمّد، الذي انطلق نحو المجهول، تشبه قصّة ومعاناة اللاجئين السوريين والكورد في الشرق الأوسط ودول أوروبا، الذين إما غرقوا في البحار، أو ضاعوا بين الثلوج والغابات والجبال، أو اختطفوا على أيدي مافيات الاتجار بالأعضاء البشرية، أو استغَلّوهم في قوانين واتفاقيات ومعاهدات اللجوء الدولية، إنها قصّة تشبه قصّة جميع أبناء البلدان، التي لا وجود للعدالة الاجتماعية فيها، حيث فضّل ترك بلده وزوجته بسبب تفشّي الفقر وقلّة العمل، وأراد اختبار الاغتراب والمجهول، آملاً أن تنصفه وتصون إنسانيته وكرامته، ولكن تفشّي اللجوء والاغتراب في العالم مُرّ، كوعود الحكّام والمسؤولين المرّة والخادعة.
قضايا مصيرية جدلية:
ناقش فيلم «حياة الماعز»، وفتح الأذهان، وسلّط عدسات الكاميرات وصفحات السوشيال ميديا إلى الكثير من القضايا المصيرية المتعلقة بالإنسان المظلوم، في شتى بقاع العالم، منها قضية مافيات الاتجار بالبشر وخداعهم من الهند أو الفلبين أو أفريقيا إلى دول النفط، أو من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق وإقليم كوردستان إلى تركيا والدول الأوروبية، وتناول الفيلم تجسيد معاناة المغتربين في دول الخليج مع كفلائهم، وعكس مآسي ومظالم نظام الكفيل السعودي منذ بدايته في فترة السبعينات قبل أن يخضع للكثير من التعديلات القانونية، هذا النظام في تطبيقاته الفعلية والواقعية لا يدلّ إلى على استعباد الأرواح والأجساد، فيتمّ معاملتهم كمعاملة الحيوانات.
اللغة أمان.. اللغة ضمان:
إن حاجز اللغة والثقافة، كان سبباً في امتهان كرامة نجيب لمدّة ثلاث سنوات متواصلة من قبل مَن ظنّه أنه كفيله، الذي استغلّ جهله وأخلاقه وإنسانيته بالمكان والقوانين، واختطفه إلى إحدى المناطق النائية في الصحراء المخصّصة لتربية المواشي، ليفقد بعدها الإحساس بالزمن والوجودية، وليصبح حتى التعرّف على وجهه في المرآة أمراً قاسياً وشاقّاً ومثيراً للجدل، بل إن المشاهد جعلتنا نشعر وكأنه أصبح فرداً من أفراد القطعان التي يرعاها.
ينتهي الفيلم بعبارة «إن جميع المصائر البشرية، التي لم نختبرها من قبل، ما هي إلا مجرّد قصص بالنسبة» القاسية، التي ستبقى معلّقة في ذاكرة الآلاف من الأشخاص والضحايا، الذين فقدوا حياتهم في الصحراء أو البحار أو الغابات. ستبقى معلّقة في مخيلة، الذين تركوا أوطانهم من أجل البقاء والحياة الكريمة، فيلم مؤلم قصّةً وتمثيلاً وإخراجاً، قدّم إجابات حقيقية عن أسئلة صعبة: متى يظلِم الإنسانُ الإنسانَ؟ يظلم مَن؟ ولماذا يظلمه؟
اقتباسات من الفيلم:
لا شك أن الخير والشرّ موجود في كلّ زمان ومكان، في الماضي والحاضر والمستقبل، موجود في كلّ دول العالم، وكما في السعودية أناس ظالمون ومتجبّرون أمثال الكفيل الخاطف، فيوجد فيها أيضاً مَن يمتلكون الرحمة والإنسانية والكرم والأخلاق، كسائق السيّارة الذي ساعد نجيباً وحمله إلى منطقة آمنة في المدينة، لكن هناك حواراً جرى بين بطلي الفيلم في بدايته عن العرب، فيقول حكيم: «إن العطور والزيوت العطرية تصنع من عَرَق العرب وأبوالهم»، ليجيبه نجيب: «العرب الحقيقيون هكذا...»، هنا أتساءل: «لماذا لم تستقبل المملكة العربية السعودية وكذلك بقية دول الخليج العربي الفاحشة الثراء اللاجئين السوريين، فتأويهم عبر قوانين حماية دولية وعربية، وتمنحهم حياة آمنة؟»
رسائل من الفيلم:
هناك مَن صنّف الفيلم بأنه سياسي يهدف سمعة وقوانين بلد كالسعودية، وآخرون اعتبروه سينما واقعية، فيما سخر البعض منه وقالوا بأنها مبالغة مفرطة إخراجاً وتمثيلاً وموضوعاً، ولكن جميعنا يتّفق على الحقيقة التي لا تقبل الشك فيها، هو أن هذا الفيلم يستهدف كلّ دولة ظالمة بمؤسّساتها وقوانينها، وشعب جاهل، ومجتمع عنيف، وعِرق مستعبد، ففكرة الفيلم إنسانية ومثيرة للجدل؛ إذ فتحت أبواباً كثيرة كانت مغلقة، كضرورة تعلّم لغة البلد الذي ستتوافد إليه مغترباً أو لاجئاً أو مسافراً أو حتى سائحاً، والاندماج في ثقافة المجتمع، وقضية العبودية وقوانين الكفالة، الاتجار بالبشر، العنف والكراهية.
أخيراً، أتساءل، وربما أنتم أيضاً تتساءلون: كم نجيباً كوردياً، أو سورياً، أو عربياً عانى ويعاني القهر والعنف والاستغلال والعبودية في البلد، الذي لجأ إليه، من أرباب العمل المستغلّين، من القوانين الجائرة، والحمايات غير العادلة؟
باسنيوز